TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > جرح آينشتاين

جرح آينشتاين

نشر في: 19 نوفمبر, 2012: 08:00 م

عندما قلب آينشتاين الطاولة على نيوتن وهزّ مرتكزات الفيزياء هزاً عنيفاً، كان قد فتح الباب واسعاً أمام مستوى جديد من مستويات الشك، وهو الشك بالعلوم، العلوم التي كانت قد بلغت أيامها منتهى تماسكها ووضوحها، وكاد العلماء بسببها أن يتحولوا إلى طواويس مغرورة بقينها العلمي، ذاك الذي كانت تتأمل أن يفسر لها عن قريب كامل أسرار الوجود. كانت فيزياء نيوتن تقوم على مطلقات ثلاثة: الزمان المطلق، والمكان المطلق، والحركة المطلقة.. إلى أن جاء آينشتاين فجعلها كلها نسبية، ولذلك كانت نتائجه بمثابة صدمة مفاجئة لمجتمع الفيزيائيين، ومن خلالهم للعقل البشري بصورة عامة. ذلك أن آينشتاين لم يكتف بالقول بأن الزمان والمكان نسبيان فقط، بل زاد على ذلك بقوله؛ أنهما يكونان ما يشبه النسيج، وأن هذا النسيج ينحني بتأثير الكتلة. وهذه النتائج الثلاث لا تعد انقلابا على فيزياء نيوتن وحسب، بل هي انقلاب على الوعي البشري، هذا الوعي الذي لم يستطع أن يتخيل إلى الآن كيف يمكن للزمان والمكان أن يشكلا نسيجاً ينحني بتأثير الكتلة، كيف يمكن للشمس مثلاً أن تؤدي لانحناء الزمان والمكان؟!

منذ أن بدأ الإنسان باستخدام الآلات المختبرية من أجل تجاوز قصور حواسه عن ملاحظة دقائق الواقع، حتى بدأت رؤيتنا للكون ومعرفتنا به تتغير بصورة مستمرة، وهكذا إلى أن صارت الصورة الجديدة المرسومة عن طريق الآلات بعيدة بشكل كبير عن الصورة التي عرفناها وألفناها منذ القدم.

الوعي البشري لم يستطع أن يتخيل الكون الذي ترسمه الفيزياء الحديثة، وقد لا يستطيع، لكن المشكلة أن هذه الفيزياء أثبتت ذلك بشكل كبير. إذن فنحن إزاء منعطف جديد على صعيد الوعي، في هذا المنعطف صار عندنا واقعان، واقع نألفه ونعرفه ونطمئن له، ذلك هو الذي رسمته حواسنا منذ آلاف السنين، وواقع أخذت ترسمه، منذ سنين فقط، أدواتنا المختبرية. المشكلة أن الموضوع لم يتوقف عند هذا الحد، بل هو مستمر، والمكتشفات الحديثة بالأحرى النظريات الحديثة لم تزل تتحفنا بالمزيد، النتائج التي تخرج علينا بها نظيرة الكم غير معقولة تماماً، مبدأ عدم الدقة أو عدم اليقين غير معقول، ولا الأبعاد الجديدة التي وصلت في بعض النظريات إلى أحد عشر بعداً، ولا النتيجة التي تقول بأن الضوء ذو طبيعة موجية وجسيمية بنفس الوقت..

قد يقول قائل بأن هذه الأبحاث لم تزل في بدايتها وأنها لم تثبت إلى الآن، لكن ما الفائدة، فجرح الوعي أصبح كبيراً، ولم يعد هناك من مجال لاندماله، لم يعد هناك مجال إلى الركون من جديد للصورة التي كنا قد عرفناها للوجود، الصورة الجميلة التي مزقها آينشتاين بعبقريته الفذة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. سنع المعرفة

    لكن بعد كل شيء، عبقريةاينشتاين قدمت للبشرية خدمات عظيمة، سيستفيد منها الانسان مدى الحياة

  2. mohamed

    صراحة تعبير دقيق ينم عن فهم عميق للمواضيع المشار اليهاعن علم الفيزياء وان قصور حواس الانسان عن ادراك الوقائع الحقيقية التي تحدث علي مستوي العالم الذري وما تحدثه الموجات بالمواد التي تمر بها شئ جديد له تصور آخر لا يدركه إلا اصحاب العقوووووووووووووووول

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram