اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > رحل (المقالح) فغادر اليمن كثير من زهوها

رحل (المقالح) فغادر اليمن كثير من زهوها

نشر في: 25 ديسمبر, 2022: 11:41 م

د. علي حداد

(1)

لن يكفي اسم الدكتور(عبد العزيز المقالح) وحضوره أن يتوشحا مدرجين في مسيرة الراهن الثقافي العربي واليمني خاصة بوصفه مثقفاً ـ شاعراً وناقداً ومفكراً ـ حسب،

فقد كانت شخصيته اجتماعاً خصيباً لقيم إبداعية وإنسانية على أرقى ما يكون لفضاءات الإبداع والقيم أن تخبر عنه، بما أحاله شاخصة حضور وطني لا تجارى، حتى ليكفي أن تذكر اسم المقالح في أي مدينة يمنية، سواء بين مثقفيها، أو في مؤسساتها الرسمية، وسواء في حاراتها أوأسواقها، في حافلة ركاب، أو في مطعم أومقهى، لتتعالى الأصوات تلهج بذكر محامده, فهو العلامة الإنسانية والثقافية التي أجمعت على تبجيلها القلوب والضمائر، فالتجأت إلى كنف تعاطفها وفيوض مسعاها الخيًر، والتنادي النبيل الذي تجد عنده تبنياً لهمها حتى ينجلي. ومن أجل ذلك كان يسعى إلى مكتبه في مركز الدراسات والبحوث اليمنية بصنعاء كل يوم الأدباء والسياسيون والفنانون ومن أوصدت الأبواب بوجه حاجاتهم، والناشئة من الأدباء الشباب، ومن يطلب عوناً أو صدقة، وكل منهم يجد بغيته عند المقالح الذي لايغلق باب طيبته، ولا يخيب مسعى من جاء ملتاذاً بيد عونه وحنو صوته ونبله السابغ.

وإذ يشار إلى المقالح خارج يمنه فستجد أن اسمه قرين اسم بلاده وصنوها الذي يذكر حين تذكر. حتى استحال بوابة اليمن الثقافية الكبرى، والمقصد الرحيب الذي تبتدئ عنده أول خطى من يزور اليمن من المثقفين العرب والأجانب، حيث (مقيله) المحجة التي لابد لهم من زيارتها، ليكون النهل من كرم وفادته ودفء مجلسه، وترتيب مستلزمات الزيارة وطقوسها القادمة.

(2)

تتلاقى في شخصية المقالح الثقافية مقومات عدة ذات خصب لافت. لقد كتب الشعر فألزم الدرس النقدي الحديث بأن يضع اليمن ومنجز أجيالها الشعرية الراهنة في حسابات اشتغاله، بما استوعبته تجربته من منطلقات الحداثة الشعرية العربية، وتكيفت له بخصوصيات تمثل هي سمات تمايزها عن سواها، عبر تخيًر لموضوعات تفيض بالعاطفة والانتماء وحميمية الصلة الإنسانية، مستوعبة الراهن العربي بإشكالاته ومشكلاته، ومستمدة من تاريخ اليمن المحتشد استعاداتها الرحيبة. وكانت فيوض الذات ومجادلتها لكل مايتماس معها وجهته الشعرية التي كرسها في العقود الأخيرة من سنوات إبداعه الحافل، وبتواتر دواوينه: كتاب صنعاء، 1999م، كتاب القرية 2000م، كتاب الأصدقاء 2002م، كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان 2004م، كتاب المدن 2005م، وسوها من أعماله الشعرية الأخرى التي دونها بلغة ناصعة البوح وواضحة الدلالات، ولكنها عميقة التوهج، وهي تتماهى مع التكيف الشعوري المنشد لعرفانية حميمة جعلها نهجه وخصوصية التمثل عنده.

ولم يكن الشعر وحده مرتكز إشراقات وعي المقالج ومثاقفته العالية فقد سايرته ـ بتماه معرفي رصين ـ كتاباته الثرًة عن المنجز الثقافي اليمني بتشكلاته التاريخية والفكرية والشعرية وموروثه الشعبي تلك التي محضها متسعاً من جهده في التأليف الذي لايمكن لأي دارس حصيف إلا أن ينهل منه ويتمعن فيه، ويقف عنده معجباً ممتناً.

وإذ قدم رؤاه في نقد الشعر العربي الحديث فقد شرًع لوجهة الحداثة اشتغالاتها وقارب أجدً تناولاتها في المصطلح والتنظير المحايث له، والتجريب الشعري الأكثر حداثة، من دون أن تغريه توجهاتها بالتمركزعند مواضعاتها، ومغادرة التيقنات المعرفية والذوقية التي تخيًرها مساراً لما ينجزه من نصوصه الشعرية والنقدية التي أرست له أهمية وجوده النقدي وكشوفاته الرائدة فيه.

(3)

تعرفت المقالح شاعراً منذ وقت مبكر، فقد تهيأ لي في أوائل ثمانينات القرن الماضي الاطلاع على مجموع دواوينه الشعرية الأولى التي أصدرتها له (دار العودة). وحين ذهبت إلى اليمن وأقمت هناك تدريسياً في جامعاتها مدة قاربت الأربع عشرة سنة تحقق لي ـ كما لغيري من الأكاديميين العراقيين والعرب ـ أن أحظى بتواصل ثقافي وإنساني حميم مع المقالح، وأن أتلمس ـ عن قرب ـ ما تكتنزه شخصيته من طبائعها في الوعي والانهماك المعرفي وسعة التواصل والاطلاع والنزوع الإنساني الأصيل المتماهي في مكتنف من التواضع والنفس المطمئنة التي تباصر ماحولها بوداعة أخاذة، وبقليل من الكلام الخفيض الصوت، حتى أنك لتتمنى أن تسمع المقالح ـ ولو لمرة واحدة ـ وقد رفع نبرة صوته عالياً، أو تجاوزت ضحكته حد الابتسامة التي تملأ ملامح وجهه السمحة.

وفي مكتب المقالح ـ ومثله في (مقيله) ببيته ـ تحقق لي ما لم أنله في أي مكان إخر: الالتياذ بمودة المقالح ودفء حديثه ومجلسه، والصلات الإنسانية الودود التي استحالت صداقات اعتز بها مع معظم المثقفين والمسؤولين اليمنين، ومن أعلى المستويات إلى أبسطها، تلك التي كانت تجتمع عنده، في انسجام رسمي وشعبي قل نظيره.

وهناك تهيأت لي أن التقي معظم أعلام الثقافة العربية الذين وفدوا إلى مجلسه، أذكر منهم: د.عز الدين اسماعيل، د.محمد عابد الجابري، د.صلاح فضل، د. عبد الملك مرتاض. والشعراء سليمان العيسى، محمود درويش، أدونيس، قاسم حداد، علي عبدالله خليفة، فضلاً عن كثير من الأدباء العراقيين الذين لم يتح لي الالتقاء بهم في العراق.

كان المقالح يقرأ يومياً كل مايصل إليه من إصدارات جديدة ومن كتب مهداة، إلى جانب الدوريات اليمنية والعربية، ويدعو الأخرين إليها، ويقدم لهم ما وصله منها بعد اطلاعه عليها. وكنت أعجب بهذه المقدرة على التواصل القرائي الدائب عنده، كونها لم تكن الانشغالات الوحيدة التي تأخذ حصة من يومه، فهناك مهماته الإدارية، ولقاءاته اليومية في (المقيل)، وما يكتبه من أعمدة تنشر له في أكثر من صحيفة، وذلك كله بتساوق مع ما يخصصه من وقته لإنجازنصوصه الشعرية والنقدية.

أخبرني مرة أنه لايترك يومه يمر من دون أن يكتب فيه ولو صفحات معدودة في أي موضوعة تشغله. وكان من أمر تواضعه وسماحة نفسه أنه يعرض الغالب مما يكتبه على من يثق بهم من أصدقائه لمراجعته وإبداء ملاحظاتهم عليه، قبل أن يبعث به إلى جهة النشر. وعديدة هي المرات التي كان لي فيها مثل ذلك الشرف، فقرأت وأبديت بعض الملاحظات التي كان أستاذنا المقالح يأخذ بها بأريحيته المعهودة.

وكثيراً ما زرت مكتبه في مركز البحوث والدراسات فوجدت بين يديه مخطوطة لمجموعة شعرية أو قصصية، هي في الغالب الأولى لشاب يدرج بخطواته المترددة في هذا الفضاء المشتجر. وربما أبديت شيئاً من الاعتراض على ما يمنحه من وقته وقلمه على مثل ذلك الجهد المتواضع، فكان يبتسم ويؤيدني في ماقلت، ولكنه يمضي بدفع تلك المقدمة إلى من ابتغاها، عاداً ذلك من واجبه الثقافي الأبوي الذي يعزز به ثقة تلك المواهب بنفسها، مراهناً على ماسيتحقق لها من نضج في القادم من الأيام إن هي واصلت المسعى.

كان تعلق المقالح بصنعاء من السجايا اللافتة عنده. فهو لم يغادرها طيلة السنوات الأربعين الأخيرة، على الرغم من الدعوات المتواترة التي كانت ترده من دول عربية وأجنبية لزيارتها ووعود الاحتفاء به، كتلك الدعوة التي وصلته من فرنسا التي منحته وسام فارس، فاعتذر تاركا الأمر لسفير اليمن هناك أن يتسلمه نيابة عنه.

بل إنه لم يغادر صنعاء لزيارة أي مدينة يمنية أخرى إلا نادراً ولوقت قصير، سرعان ما يعود بعده إلى (صنعاء) المدينة التي استأثرت بكل ما للأماكن من نفسه. أذكر أن واحداً من أخوته قد توفي في مدينة (إب) التي كنت أعمل في جامعتها. أخبرت يومها بقدوم المقالح للمشاركة في مراسيم الدفن، فهرعت إليه معزياً إياه، لأجده يتهيأ للمغادرة، معتذراً عن كل الدعوات التي عرضت عليه لنيل قسط من الراحة بعد مكابدته أعباء السفر الطويل وأحزان الفقد.

(4)

أيه دكتور (عبد العزيزالمقالح).. أيها المبدع النقي والإنسان الأنقى، ها أنت ترحل إلى أقصى الغياب، وباذخ الخلود، فمن سيجمع مراثيك من أفواه الصحف والمجلات ومنصات التواصل، وهي شاسعة بامتداد العروبة والإنسانية التي أكبرتا فقدك لأنك أكبرت وجودهما وانتميت إليهما بضمير صاف؟.

من سيعوض اليمن عن غيابك، وأنت لحظة التيقن الوطني الوحيدة التي لا خلاف على شرعيتها في مواجهة التصدع التي تعصف بالبلاد والعباد؟.

وبعدك.. بعدك: هل لنا أن نحلم برؤية اليمن ثانية؟، وإذا صدقت الرؤيا فبأي قلوب منكسرة وحواس مسكونة بالخيبة، سنراها وقد رحلت عنها بعيداً، تاركاً للهباء والتبعثر كثيراً من أضواء صنعاء التي كنت تشرق في صباحاتها شمس وعي ودفء كلمة ونقاء مواقف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram