ستار كاووش
لماذا يذهبُ الناس الى المتاحف؟ ما السبب الذي يدفعنا لزيارة هذه الأماكن المليئة بالأعمال الفنية، ونقف محملين بمشاعر مختلفة ونحن في حضرة تُحَفٍ مختلفة، سواء كانت نحت آشوري قديم، تمثال اغريقي أو إيقونة ذهبية للفنان الخالد روبيليف؟
ماهو التناغم الروحي الذي تمنحه لنا الأعمال العظيمة؟ ما هي الخبرة الجمالية التي نستقيها من غورنيكا بيكاسو، زنابق مونيه، عواصف تيرنر البحرية، وجوه بيكون، إحتجاجات غويا، ترف رينوار، رمزية مورو، عذوبة بيسارو، إرتعاشات ديغا، غرائبية برويغل، مخملية فان دونغن، وحتى بدائية روسو، وآلاف من الرسامين المتفردين؟ تُرى كيف سيبدو العالم دون متاحف تعرض لوحات هؤلاء؟ هل يمكن تصور ذلك حقاً؟ وهل المتاحف ضرورية فعلاً الى هذا الحد؟
المتحف، بشكله العام، فكرة مذهلة وعبقرية، والمتاحف نقاط مضيئة في وجوه المدن والبلدان المتحضرة، وهي نوافذ مُشرقة تطل على حضارة وفن وثقافة وتقاليد هذه المدن. حين تطأ قدمك متحفاً، يتغير شيئاً ما بداخلك، تتحرك مجموعة من الفراشات وسط روحك، تصبح شخصاً مختلفاً وتشعر بأن جناحين قد نبتا على كتفيك، لأنك لا تتعرف هنا على الأشخاص المرسومين في اللوحات فقط، بل ترى بيوت تلك الأزمنة البعيدة وكيف كان شكلها وطرازها، كيف كانت تبدو النوافذ والستائر في تلك الفترات الموغلة في القدم، تعرفَ نوعية الملابس والأقمشة، القبعات والحقائب، أنواع الأكل والشراب، علاقة الناس ببعضها، الحفلات والمناسبات الاجتماعية التي يلتئم حولها الناس، حتى الرقص والنوم له حصة في لوحات المتاحف، كذلك شكل الوسائد والأغطية، أشكال الأقداح المختلفة ولون النبيذ في هذه القرية وهيئة الخبز في تلك البلدة. مفردات وتفاصيل لا تخطر على بال أحد، تجمعها اللوحات في ثناياها، حتى كإنك تشم رائحة الأشياء والتفاصيل وتتحسس إلتماعة الضوء في عين هذه المرأة، وتلويحة الأصابع عند تلك الصبية، تتماهى مع السكون في لوحات هوبر وتسمع ضجيج الثملين في حانة مزدحة بمدينة لايدن البحرية كما رسمهم يان ستين، ترى العمران والبناء، الحروب القديمة والسلام أيضاً. نعم، لا يتوقف الأمر عند رؤيتنا جمال تقنيات وأساليب الفنانين ومعالجاتهم المبتكرة، بل نتعدى ذلك ونشاركهم أشياء وتفاصيل تاريخية يستحضرونها من بقاع مختلفة من الأرض، لتكون بين أيدينا من جديد، ونتحسسها حيَّة ونابضة بالمشاعر. الفن هو اللغة الوحيدة التي تتفوق على اللغة ذاتها، لأنه أقدم من كل التدوين وكتابة التاريخ. لهذا كله، تُقاس ثقافة البلدان ومكانتها بعدد المتاحف الموجودة فيها. هذه المتاحف التي تقول لنا كل شيء تقريباً عن أحوال الناس وما جرى في تلك الأوقات الموغلة في القدم.
المتحف ليس عملية تكديس أعمال فنية في قاعات معينة وانتهى الأمر، فهناك تقاليد ومقومات وإلتزامات ليكون المتحف حقيقياً وأعماله جديرة بالعرض، هناك إدارات خاصة وخبراء صيانة وطباعة كتب وميزانية تتعدى الملايين لإستضافة معارض عالمية بين فترة وأخرى. لا يمكننا أن نجهز بناية ونضع فوقها يافطة مكتوب عليها (متحف) وإنتهى الأمر، فالعملية أبعد وأعمق من ذلك بكثير، وهي بحاجة الى دعم دولة ومؤسسات. نحن أول من إبتكر الفن على وجه هذه المعمورة قبل سبعة آلاف سنة تقريباً، لكن ما هو عدد المتاحف التي لدينا الآن؟ إنها تكاد تُحصى على أصابع اليد، بالمقابل هناك بلد إسمه هولندا (التي لم تكن موجودة أصلاً حين كانت بغداد ألف ليلة وليلة في أوج إزدهارها) نعم هولندا هي ذاتها التي فيها الآن تسعمائة متحف تقريباً. ما السبب في حدوث هذا الفرق، ونحن نملك تاريخاً فنياً يكفي لمئات المتاحف؟ وبمناسبة الحديث عن المتاحف، فقد أُجريَ في الآونة الأخيرة تغييراً في الدستور الهولندي، يقضي بإلزام المدارس الإبتدائية بجعل التلاميذ يزورون رايكس ميوزيام، الذي يُعتبر أهم متحف في الأراضي المنخفضة، ومن يتخلف عن ذلك لا يمكنه العبور الى المرحلة الدراسية التالية. والسبب في ذلك، هو جعل التلاميذ يتعرفون على تاريخهم، يشاهدون لوحة الحراسة الليلية التي تُعتبر أعظم لوحة كلاسيكية في تاريخ الفن، ويَطَّلِعونَ على أعمال ريمبرانت وباقي فناني العصر الذهبي أمثال فيرمير وفرانس هالس ويان ستين وغيرهم. فلا شيء في هذا البلد أهم من إحترام الفن، ومنح التقدير لكل من يهتم به، وأتذكر حين أُجريَتْ معي مقابلة في جريدة هوخفينس كورانت، تحدثت فيها عن عظمة لوحة (الحراسة الليلية) لريمبرانت ومكانتها في تاريخ الفن وأهميتها الشخصية عندي وكيف أشعر بالمتعة والعظمة في كل مرة أتأملها، وبعد ذلك بيومين وصلتني رسالة بالإيميل من متحف رايكس ميوزيام تقول في جزء منها (يومك طيب سيد كاووش، نرجو منك أن ترسل لنا عنوانك البريدي كي نرسل لك مجموعة من بطاقات الشرف لدخول المتحف بالوقت الذي تحب، كي تتمتع أكثر بلوحات ريمبرانت، لقد قرأنا حديثك عن الحراسة الليلية وكان رائعاً….شكراً لك).