TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مكافحة التلوث البيئي أولوية إستراتيجية لحماية أرواح العراقيين

مكافحة التلوث البيئي أولوية إستراتيجية لحماية أرواح العراقيين

نشر في: 26 ديسمبر, 2022: 11:17 م

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

إن العنوان المثير الذي أختارته الوكالة الالمانية للانباء - DWدويتش فيلة “ التلوث البيئي – موت بطيئ يهدد حياة العراقيين “ يعكس واقعا إنسانيا مؤلما جدا لكل عراقي يحب ويحرص على وطنه أن لا يصل لمرحلة خطرة كهذه تهدد أبنائه وكيانه إليها نظرا للتصاعد الواضح في نسب التلوث الكبيرة للبيئة العراقية بكل ابعادها (في الهواء، التربة وفي المياه)

خاصة ومن منظور مكمل اشار خبراء حماية البيئة أن اوضاع بلادنا الحبيبة وصلت لمستوى خطير يمكن وصفه بالكارثة الانسانية التي يجب معالجتها سريعا وبافضل السبل النوعية الممكنة. ترتيبا على ذلك لابد من إطلاق مبادرة فاعلة مبدعة لمكافحة التلوث البيئي في إطار استراتيجي حماية لإرواح العراقيين جميعا.

حقا تؤكد دويتشة فيلة DWفي إلتفاتة ومفارقة جلية أن العراق برغم كونه بلاد الخصب والاخضرار تأريخيا لازالت مؤشرات التلوث البيئي فيه عالية جدا. الاشارة جاءت في فقرة واضحة من تقريرها: “ بعد أن كان العراق يسمى في ماضيه (ارض السواد) لشدة خضرته، حيث يتدفق رافداه (دجلة والفرات) بلا إنتهاء، ليحيلاه إلى جنة خضراء، باتت ارض الرافدين اليوم تعاني من إتساع رقعة المناطق الصحراوية، وباتت العاصمة بغداد وأغلب المدن العراقية تعاني من مشكلات التغير البيئي الناتجة عن الاهمال الكبير لواقع البيئة في البلاد”. لعل من العوامل الاساسية المنتجة لهذا الوضع البيئي الانساني المآساوي ما يرجع لعوامل طبيعية وأخرى من صنع الانسان في مراحل السلم أو الحرب. علما بإن ما يرجع للعوامل الطبيعية البيئية ليس منفصلا عن دور الانسان القابض على مقاليد السلطة خاصة وهو يتجه لصناعة واقع جديد يقر بضرورة أن يكون كل عضو في النظام السياسي (فردا، جماعة أومؤسسة حكومية او غير حكومية) ليس بعيدا عن تحمل المسؤولية الحقيقية لبلورة إستراتيجية شاملة مبدعة لمكافحة التلوث البيئي تمهيدا للانتقال لعصر التنمية الانسانية المستدامة التي تعتمد في أحد جوانبها على التخلص من ربقة الدولة الريعية التي تعتمد على مداخيل النفط بنسبة تزيد عن 95 في المائة إلى مرحلة الطاقة الخضراء المتجددة. ترتيبا على ذلك، لابد لنا وبهدف إيجاد حلول ناجعة الاقرار بوجود حلقة مشتركة من التفاعلات البينية المتبادلة بين ظاهرة التغير المناخي و العوامل البيئية الاخرى بمعناها الواسع من جهة وظاهرة الصراع السياسي – الستراتيجي بين دول العالم التي تجد إحدى ساحات نفوذها الستراتيجي وتنافسها العالمي في محيطنا العربي والعراقي تحديدا. سياق يؤكد لنا في كل يوم أن تغيير المناخ القاسي يمثل في أحد تجلياته تهديدا إستراتيجيا خطيرا للاقتصاد السياسي بل ولمجتمعنا بكل أطيافه الجميلة في العراق. ولكنه يمثل فرصة للتنمية أن نجحت المواجهة والتكييف مع متطلبات العصر.

من هنا أهمية تقديم صورة تحليلية – وصفية شاملة لبعض التحديات البيئية التي يجب مواجهتها بأرادة فاعلة سياسيا:

اولا: إن إلارتفاع الحاد لدرجات الحرارة وصولا لمنتصف الخمسينات عجل في مسار تصاعد الجفاف المؤدي للتصحر مغطيا مساحات واسعة من بلادنا. كمثال، وفقا لبرنامج الامم المتحدة للبيئة United Nations Environmental Program- UNEP «يفقد العراق يوميا حوالي 2500 هكتار من الاراضي الصالحة للزراعة سنويا بسبب التصحر Desertification».

ثانيا: إن تنامي ظاهرتي الجفاف والتصحرجعلت مساحات جغرافية واسعة من مناطق العراق التي سبق وأن تمتعت تربتها بالخصوبة والانتاجية العالية مساحات واسعة غير قابلة للسكن. أي عوامل طاردة للسكان خاصة شريحة الفلاحين والمحرومين برغم كونها تقع على ضفاف الرافدين (دجلة والفرات وشبكة انهارهما الفرعية). يصدق بيت الشعر التالي على حالة كهذه: “كالعيس في البيداء يقتلها الضمئ والماء فوق ظهورها محمول».

ثالثا: ترتيبا على ما تقدم أضحت بعض المدن العراق قابلة لإستقطاب مزيد من النازحين خاصة من فئة الشباب الذين يعدوا العماد وشغاف القلب من عملية التنمية الانسانية المستدامة. من هنا، نجد تحولا “ديموغرافيا – سكانيا” سلبيا في الغالب تعاني منه محافظات العراق مفاده انخراط اعداد كبيرة من السكان في سوق العمل بصفة “عمالة غير ماهرة” او بطالة مقنعة أو بطالة كلية بضمن ذلك مثلا في قطاع النفط حيث تمتنع الشركات النفطية الدولية عن توفير فرص عمل مناسبة لهم. لاشك أن إرتفاع نسب التلوث البيئي تؤكد لنا خطورة المضي بإتباع سيناريوات الاخفاق المتكررة في التخطيط والادارة الرشيدة التي تنتج لنا اعدادا كبيرة جدا من الشباب الذين نزحوا او هجروا مناطق سكناهم الاصلية إلى المدن (بغداد، البصرة والنجف الاشرف وغيرها) علهم يحصلوا على اعمال منتجة تمكنهم من البقاء على قيد الحياة اولا ومن ثم الارتقاء إقتصاديا - إجتماعيا وثقافيا وصولا لمرحلة الرفاهية Welfare Phase.

رابعا: مع إستمرار ظاهرة الجفاف “التصحر” أخذ العراقيون يشهدون واقعا مأساويا يؤكد لنا بإن ما عدّ او عرف بمناطق زراعية تتمتع بالخصوبة آخذ بالتحول بفعل مزدوج للتغير المناخي من جهة ولسوء الادارة النوعية للقطاعات الاقتصادية - الزراعية – الصناعية من جهة أخرى واقع صعب جدا اوصلنا في النهاية إلى واقع اراض سبخة بخة أو بور – مالحة غير قابلة للانتاج الزراعي ولواقع صناعي متخلف عن روح العصر الحديث خاصة مع افتقدنا لدور فاعل للقطاع الخاص في مجال الابداع البيئي المنتج لمشروعات استراتيجية جديدة تواكب النهضة العلمية المطلوبة لبناء عراق جديد.

خامسا: ترتيبا على ذلك نشهد نموذجا مشوها للتنمية الانسانية المستدامة مترجم إحصائيا في القطاع الزراعي إلى ظاهرة خطيرة محورها تقلص كبير في مساحة الاراضي الزراعية خاصة تلك التي تتمتع بالخصوبة في وسط وجنوب العراق التي آل الكثير منها للزوال او للتقلص بضمنها مثلا في منطقة الفاو إذ مايقارب ال 7.5 كيلو متر مربع حجمت إلى 3.75 كيلومتر مربع بينما في محافظة ذي قار (الناصرية) فإن مساحة الارض الزراعية انخفضت من 100 كيلومتر مربع إلى 12.5 كيلومتر مربع. ضمن ذات السياق عبر اربعة عقود سالفة من تدهور حال القطاع الزراعي أنخفضت اعداد سكان مدينة ميناء الفاو كمثال من 400000 إلى 50000 نسمة. أكثر من ذلك، شهد العراقيون منذ 2001 ان إرثهم الحضاري مجسدا في أهوار العراق Marshlands آخذ في الاضمحلال كنتيجة طبيعية لتصاعد التصحر وقلة المياه إتساقا مع افتقاد واضح للمعالجة البيئية السليمة بضمنهاعدم استخدام التقنيات الرقمية الجديدة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

ما يحزن العراقيون كثيرا أن تركة الحروب المدمرة وسوء الادارة البيئية شمل عمتنا النخلة التي عانت الكثير من الاهمال من قبل الانظمة السياسية المتعاقبة رغم كونها تمثل لشعبنا ولبلدنا رمزا تأريخيا – حضاريا وتنمويا مستداما حيث تفيد الاحصائيات التي يمكن اعتبارها مؤشرات تقديرية أن العراق خسر حتى الان أعدادا كبيرة جدا منها سبق وأن قدرها البعض في مراحل الازدهار السابقة ب 30 مليون نخلة إلى اقل من النصف بكثير. علما أن سوء إدارة ملف نخيل العراق وعقب انتهاء الحروب الكبرى اضحى سببا رئيسا في أنحدار الاهتمام والمتابعة لملف التنمية الزراعية برمته. علما بإن تنمية ملف النخيل ستمكن العراق ليس فقط الاستفادة من كل قطعة من شجرة النخلة لتطوير القطاع الزراعي بل وستسهم بتنمية الاقتصاد العراقي مايسمح بتصدير كميات مهمة كبيرة جدا من ثمارها ومن الصناعة المعتمدة عليها. كما أن انتشار النخيل سيمكن من تعزيز القطاع البيئي وأنعاش الوضع الصحي للسكان بخاصة من خلال تثبيت التربة بما لايسمح بتكرار العواصف الترابية والرملية التي انتجت في السنوات الاخيرة ظاهرة خطيرة من التلوث البيئي المهددة لحياة البشر تم إيضاح عددا من ابعادها في عدد من التقارير الدولية ذات المصداقية وبضمنها تقرير البنك الدولي الاخير في نوفمبر الماضي.

سادسا: تقرير البنك الدوليWorld Bank Report أكد ايضا على حقائق مهمة جدا محورها تلازم العلاقة بين التدهور البيئي، المناخي العراقي والتنمية الانسانية المستدامة. لاشك بإن حجم الازمة البيئية العراقية لايجب الاستهانة به كونه يختص بجملة أمور حيوية منها ضرورة إشراك وتفعيل دور القطاع الحكومي حماية العراقيين من مخاطر التلوث الجمة التي يعاني منها العراق منذ مدة ليست بالقصيرة ولكنها وصلت لحدود فاقت كل التصورات والتحليلات الواقعية أو العلمية من قبل الخبراء في مراكز الابحاث الستراتيجية بالنظر لتنامي معقد ومركب لإزمات حياتية على رأسها أزمتي الامن الغذائي والمائي من جهة مع تسارع نسبي في وتيرة الاصابة بسرطانات قاتلة وغيرها من الامراض والاوبئة المتحورة عن جائحة كورونا أومن تنامي انتشار الغازات السامة الناجمة عن استمرار حرق الغاز الطبيعي المرافق لأنتاج النفط خاصة مع فشل مستمر لضعف تطبيق قانون حماية البيئة للعام 2009 او أي تطبيق آخر خاصة إذا لم تعاقب الجهات المتسببة بالتلوث بشتى صوره وانواعه بأجراءات قضائية – قانونية رادعة حتى لو كان بضمنها شخصيات مسؤولة عن حالات التلوث تعمل ضمن إطار مؤسسات حكومية. ترتيبا على ذلك قدر البنك الدولي أن مايحتاجه العراق مايقارب 233 مليار دولار بحلول 2040 لمواجهة آثار تغير المناخ للاستجابة للحاجات التنموية الاكثر الحاحا. علما بإن العراق يفترض انه حاليا بصدد الشروع في مجال نمو أخضر شامل تساوي تكلفته نسبة 6 بالمائة من ناتجه الاجمالي المحلي سنويا (مجرد تقديرات أولية).

لعل إعطاء اولوية لتطبيق إستراتيجية مكافحة التلوث ومنها الحد من دورة العواصف الترابية – الرملية الحمراء التي تعتبر نذيرا خطيرا بما حدث فقط في الاشهر القليلة الماضية من تصاعد حالات الاصابة بالامراض التنفسية كنتيجة طبيعية لإنتشار السموم المرافقة لارتفاع نسبة الهواء الملوث حيث مع بدء مبكر لفصل الصيف في مايو – يونيو وإلى نهاية اغسطس وبداية سبتمبر القاصي والداني تكرر وتيرة العواصف الترابية – الرملية الشديدة تقريبا كل اسبوع. عواصف تنقل اطنان من الاتربة والرمل عبر مسافات جغرافية شاسعة من بلدنا. علما بإن العراق يعد حاليا من بين الدول ال5 الاكثر تعرضا لعواقب التغير المناخي وعليه ضرورة مواجهة تحديات اساسية على راسها: تلوث التربة، الجو، المياه والطاقة مايعني أخذ موضوع البيئة بمفهومها وابعادها الشاملة بكل جدية بغية الاستفادة من كل سيناريوهات معالجة التلوث وطنيا، اقليميا ودوليا. مايستدعي التعاون والتنسيق مع الدول المتقدمة والامم المتحدة وكافة مؤتمرات التغيير المناخي كأولوية هدفها وضع استراتيجية شاملة قابلة للتنفيذ عبر مراحل زمنية محددة وليس الامر بمستحيل مع توافر خبرات وتخصصات عراقية في شتى حقول البيئة والتنمية الانسانية المستدامة بالتعاون والتلاقح مع خبرات دول العالم المتقدم أينما وجدت للاستفادة من خبراتها المبدعة لمواجهة تحديات البيئة حماية لإرواح اجيالنا الحاضرة والقادمة تحقيقا للتنمية الانسانية المستدامة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

السوداني يؤكد التزام العراق بخطط أوبك

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram