اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: وجْدُ القلوب

مرساة: وجْدُ القلوب

نشر في: 27 ديسمبر, 2022: 09:45 م

 حيدر المحسن

في طريقي إلى مكان اللقاء مع الصديق لؤي عبد الإله، وهو الساحة التي تحمل اسم الشاعر معروف الرُصافي، فكّرتُ أن المدينة لا تنام عندما يهجع سكّانها في الليل، فالشوارع والمباني والأشجار، وكذلك النهر، المدينة هي أمّ تسهر وتغذّي أبناءها بالأحلام من ثديها الذي فيه خزين لا ينضب من الحكايا،

وإلّا من أين تأتينا مادّة الحلم إن رقدتْ البلدة والشارع والحيّ، وسلّم الجميع أنفسهم لسلطان الكرى؟ هل يحلم النائم في الصحراء، أو في الجزيرة والفلاة؟ ربما أغْفى قليلا، وأيقظته سريعا كوابيسٌ أبطالها وحوش الأرض السارحة. لكن السؤال الأهمّ، والذي وجّهته إلى صديقي حالما التقينا، وكان أذان الفجر يضجّ في السماء من الجوامع القريبة: كيف تكون أحلامكَ وأنت في مدينة بغداد؟ أجّلَ صديقي جوابه، وعبرنا جسر الشهداء إلى جهة الكرخ، وكان الفطور في مطعم لا يحمل إسما في حيّ الرحمانيّة، تشريب باقلاء بالدهن الحرّ والبيض. المكان مزدحم بعمّال البناء الذين استيقظوا قبل أذان الفجر، مثلنا، وكان الضياءُ الأول يرسم في السماء سِحرا لا يُرى سوى في هذا المكان، لأن المدينة هي بغداد، ولأن ضيفي على المائدة هو الصديق لؤي عبد الإله، ولأن الطعام تشريب باقلاء...

تعرّفتُ على الصديق أول مرّة في فجر مماثل لفجرنا هذا، قرأت فيه قصة "سرّ الأفعى" من المجموعة القصصية "رمية زهر" للكاتب. وجهُ لؤي عبد الإله هو وجه (صفيّة)، بطلة القصّة، يشبه "صفحة مرمريّة ناصعة، يسخر من إزميل الزمن وقسوته". عند ولادة (صفيّة) ظهرت نجمة بذيل طويل سقطت منه أحجار ناريّة أشعلت حرائق في البلدة، وخلّفت وراءها قطعا صغيرة تشبه العقيق، تتوهج في الليل كالكهرب، ومن حصل على ثلمة منها أصابه حظّ وفير. عندما بلغت البنت الثالثة عشرة، زوّجها أبوها إلى تاجر حبوب أخذها لتعيش معه في الريف، النهار تقضيه متجوّلة على ظهر حصان وهي بزيّ الرجال، وفي الليل تنقلب إلى "فتاة ساحرة متمنّعة ومولعة بإبقاء الشيخ التاجر على حافة التلهف المريع". في مزرعة الشيخ صارت الشابة تتابع دورات حياة الخيول والشياه، لحظات السفاد الساخنة، حيل الذكور في التقرّب، وردود أفعال الإناث. ومن مراقبة عملية الولادة لدى الحيوان تتعلّم الزوجة مهنة القِبالة. أفلس الزوج بعد سنين قليلة بسبب نزق زوجته، وفارق الحياة في ظروف غامضة، لتعود صفيّة إلى بيت أبيها تعمل قابلة مأذونة. كانت تحمل معها أينما ذهبت حقيبة مكعبة زرقاء، ولتفسير شبابها المتجدد تقول للسائلين: "بهذه الحقيبة سأهزم الشيخوخة". بالإضافة إلى جمالها، كانت المرأة المرمريّة اللون تقرأ الغيب. قبل أن تسمع طرقا على الباب، تنهض لتفتحه، ذاكرة اسم الزائر، متحدّثة عما جرى له قبل يوم ويومين. وعادت ذات مرة إلى البيت، بعد عمل مضن في توليد النساء، حاملة تحت عباءتها وليدة تكاد تشبهها، عينين بلون الزمرد وبشرة بيضاء. ادّعى البعض أنها ثمرة علاقة سريّة بين جنيّ وإنسيّة، ولم يمض وقت طويل حتى غيّر الناس رأيهم، ليعتبروا الطفلة هبة سماويّة لهم، وأطلقوا عليها اسما لم تعرفه الحارة من قبل: «وجْد القلوب».

لن أذكر لكم تكملة القصّة، وما هو السرّ في الحقيبة الزرقاء، وكيف حافظ على شباب صفيّة، حتى أن وجد القلوب لمّا كبرت وتزوّجت، كانت المرأتان تبدوان توأمين. ولن أقول كذلك شيئا عن الدرويش الذي تزوّجته امرأة المرمر، وما جرى بينهما من كشف للغيب، وكيف بطل سحر الشباب في عروقها، وأدعوكم لقراءة القصّة على موقع الكاتب في النتّ، أو في كتابه القصصي.

عندما أنتهينا من فطورنا، أنا وصديقي، وبينما كنّا نشرب الشاي، وفي ضوء الفجر صارت لي قناعة كاملة أن لؤي عبد الإله ليس كائنا أرضيّا مثلنا، بل هو هبة من السماء، فهو صورة طبق الأصل للفتاة وجد القلوب: عينان بلون الزمرد ووجه ببياض ثلجيّ وهدوء ملائكيّ، كأن صفيّة جاءت في تلك الليلة بالاثنين، الولد والبنت، من حلمٍ رأته في أثناء نومها تحت سماء بغداد.

تناولنا طعام الغداء في مطعم "نعمان" في حيّ الفضل؛ سمك جرّي مطعّم مقليّ بالزيت مع رزّ مطبوخٍ أحمر، وهذا كلامٌ يتبعُ...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جعفر صادق رشيد

    مرحبا، للتنويه، القصة ليست منشورة على صفحة الكاتب للقراءة، انما الموجود هو صورة غلاف الكتاب. https://www.luayabdulilah.com مع تحياتي.

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram