ستار كاووش
تركتُ (بيت بائات الهوى) خلفي، وأقصد لوحة فيرمير التي تحمل هذا العنوان، وتوقفتُ لحظة أفكر بالضوء الناعم الذي رسمه هذا العبقري على وجه الفتاة، والذي إختلطَ بالنظرات المخادعة للمرأة العجوز التي تظهر وسط هذه اللوحة، يا للرسام العبقري الذي جمعَ المتعة والجشع على قماشة رسم واحدة. إبتعدتُ قليلاً عن اللوحة، لكني لم أستطع منعَ نفسي من الإلتفاتِ نحوها من جديد،
متخيلاً أن الرجل الذى في يسار اللوحة، كان يتابعني فعلاً بنظراته وإبتسامته الماكرة! يالهذه الكائنات التي تبدو كإنها تتنفس هواء القاعة وتتابع الزائرين بشكل خفي، والتي تجعلني أفكر إن الفن الحقيقي يخلق حواراً من نوع خاص مع المشاهد، ويهدينا لمحات تبقى دائماً في الذاكرة. مضيتُ بجولتي أكثر، وسط المتحف الكلاسيكي في مدينة دريسدن، أبحث بين الصالات عن تحف الفن التي تلتمع على الجدران مثل الجواهر، وإنفرجت أمامي كنوز الإيقونات وفنون عصر النهضة وفترة الباروك وتُحَف الفن المصري القديم. تجولتُ هنا وهناك أتمرأى في ضوء اللوحات العظيمة، وما أن دخلتُ واحدة من الصالات، حتى (أشارَتْ) لي فتاة جميلة إنبثقت من إحدى اللوحات، إقتربتُ منها، لتتضح لي ملامح هذه الأعجوبة التي هي لافينا إبنة الرسام تيتيان الذي رسمها في بورتريت مذهل، حيث تظهر بثوبها الساتان الأبيض، ممسكة بمروحة يدوية مربعة الشكل، وتُثَبِّتُ بصرها نحو أبيها الرسام الشهير، فيما إلتمعَ عقد اللؤلؤ الأبيض على عنقها البض، وبدا وجهها مضيئاً أثر ربطها لشعرها الأشقر الى الخلف بعقد آخر من اللؤلؤ، وقد إنسجمَت كل هذه التفاصيل مع لون ثوبها وبشرتها الوردية المشرقة. مضيتُ قليلاً وإذا بواحدة من لوحات روبنز تستوقفني، وقد طَلَّتْ منها زوجة أحد أثرياء جنوب هولندا بياقتها المنشاة والمزخرفة التي إنسجمت مع الطوق الذي وضعته على رأسها. تمسك بسلسلة ذهبية تتدلى من ثوبها وتمنح الناظر انطباعاً بثرائها ومكانتها الإجتماعية في ذلك الوقت، يشع الضوء من بريق عينيها ووجهها، وقد فغرت فمها قليلاً وكإنها على وشك البوح ببعض الكلمات للرسام الذي إنشغلَ بمزج بعض الألوان على باليت الرسم، بحثاً عن الدرجة المناسبة للون بشرتها. مضيتُ أتأمل لوحات المتحف، أتقدم نحو هذه الزاوية التي عُلِّقَتْ فيها لوحة للرسام فان دايك، وأنتقل الى ذلك الركن حيث إستقرت واحدة من معجزات ألغريكو، لأتوقف بعدها عند تمثال مصري قديم، هو في الحقيقة تابوتاً لإحدى الميمياوات بالحجم الطبيعي للإنسان ينتصب داخل صندوق زجاجي. نظرتُ الى هذا العمل الذي بانَتْ عليه بصمات الزمن، وتمعنتُ الإعجاز الفني الذي بقي شاخصاً بضعة آلاف من السنين. درتُ حول هذا العمل، لأرى التفاصيل أكثر، فإتضح إنه مقسم الى قسمين، هما التابوت الذي توضع فيه المومياء، وغطاءه المزين بالزخارف والرسوم المدهشة، والذي بدا كتمثال مكتمل الملامح ينظر بعينيه المكحلتين نحو أفق بعيد حيث أرض الكنانة.
مضى الوقت سريعاً، ولابد لي أن أنهي جولتي عند رسام أحبه كثيراً، ولم يكن هذا الرسام سوى عبقري عصر النهضة الخالد بوتيشيلي الذي أثر كثيراً على تاريخ الفن ومازال تأثيره واضحاً حتى على كثير من فناني العصر الحديث. وقفتُ أمام لوحته المهمة (معجزة القديس زنوبيوس) والتي رسمها في سلسلة من أربع لوحات موزعة في أماكن مختلفة، واحدة منها في متحف ناشيونال غاليري بلندن، وأخرى من مقتنيات متحف ميتروبوليتان في نيويورك، وثالثة موجودة أيضاً ضمن إحدى المجموعات في لندن، والرابعة هي التي أقف أمامها الآن في متحف دريسدن. وقد جعل بوتيشيلي هذه اللوحات كإنها مجموعة من القصص المصورة. وقد ظهرتْ على هذه الأعمال الأربعة بعض الإختلافات في مناخها العام، بسبب أعمال الصيانة التي طالتها في أماكن مختلفة خلال القرون الخمسة الماضية. في لوحة دريسدن تظهر واحدة من معجزات هذا القديس، وقد قَسَّمَ بوتيشيلي اللوحة الى ثلاثة أقسام، حيث يظهر الى اليسار صبي تصدمه إحدى العربات ويؤدي ذلك الى موته، وفي وسط اللوحة تظهر أمه المنتحبة وهي تحمله الى الكنيسة، ثم تعود الحياة الى الصبي من جديد من خلال صلاة زنوبيوس، وتتلقفه أمه المتلهفة، والجزء الأخير يساراً، يمثل زنوبيوس ذاته على فراش الموت. وقد إهتم بوتيشيلي في هذه اللوحة (كما في اللوحات الثلاث الأخرى) بالأشكال المعمارية والهندسية في الخلفيات ( وقد إكتسبَ ذلك من خلال زيارته الى روما)، كذلك ركز على لباس رجال الدين واختلافه عن لباس الناس الآخرين. وقد رسم هذه اللوحة سنة ١٥٠٠ ، في الفترة الأخيرة من مسيرته الابداعية العظيمة في مدينة فلورنسا. هكذا أنهيت ظهيرتي في أرجاء المتحف، محاولاً معرفة أسرار بعض اللوحات وما تقوله الأعمال العظيمة عن خلود الفن وجمال ما تركه لنا هؤلاء الأساتذة الذين تعلمنا منهم كل شيء يتعلق بالفن وصنع الجمال والإبداع الذي يبقى مع الزمن.