TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > العراق والتغير المناخي

العراق والتغير المناخي

نشر في: 1 يناير, 2023: 10:12 م

حسن الجنابي

الجزء - 6

لا أعتقد بوجود مساحة في العراق لم تعبث بها أليات بمختلف الطرق والوسائل خلال الستين عاماً الماضية. والنسبة الأكبر من تلك المساحات كانت ضحية صامتة للحروب المدمرة التي خيضت عبر العقود الستة الأخيرة، منها الحروب الداخلية في كردستان ثم مروراً بالحرب مع إيران وحرب الخليج الثانية ثم الحرب التي أدت الى احتلال العراق في عام 2003 وما تلاها.

أدت تلك الحروب الى تغيير مدمّر في التربة والغطاء النباتي نتيجة حركة الآليات وأنتشار المعسكرات و”تهيئة الأرض” لخوض المعارك والمواجهات العسكرية بما فيها تجريف الأراضي، وخاصة النخيل على ضفاف شط العرب على سبيل المثال أثناء الحرب مع إيران. أما السلاح الكيمياوي فقد استخدم على مساحات واسعة نسبياً في حلبجة وغيرها من الأماكن، وكذلك استخدمت وبكثافة غير مسبوقة اسلحة اليورانيوم المنضّب التي وثقت نتائج استخدامها في العديد من التقارير الصحفية والطبية.

توجت أفعال العبث الكبرى التي حصلت في ظل النظام السابق بقرار تجفيف الأهوار الذي حشدت له امكانات الدولة الهائلة. فقد كانت الأهوار تغطي مساحات كبيرة جداً تبلغ في ذروتها 15 الف كيلو متر مربع في التاريخ الذي سبق انشاء السدود في المنابع وعلى أطوال أعمدة الأنهر والروافد منذ حوالي اربعين عاماً. ومن سوء الحظ فقد تزامنت الحملات الحكومية لتجفيف الأهوار العراقية مع انشاء سلسلة السدود في منابع الفرات على وجه التحديد، ثم امتدت الى ضفة البلاد الشرقية على روافد نهر دجلة النابعة من إيران وأخرها سد اليسو الكبير على عمود دجلة في تركيا الى الشمال من سد الموصل الذي يضاهيه في السعة الخزنية.

بعض أفعال تدمير بنية التربة العراقية حصلت وتحصل في أحيان كثيرة بسبب العوائد والإيرادات الإقتصادية المتوقعة، كمشاريع المقالع وحفر القنوات واستصلاح الأراضي، وانشاء طرق ومطارات وموانئ ومصانع وغير ذلك، مما يعتبر جزءً من التنمية الإقتصادية، برغم العشوائية التي رافقت انشاء تلك المشاريع أثناء الخطط “الإنفجارية” أو اختلال اولويات التنمية خلال فترة عسكرة وأدلجة الدولة ومتطلبات ذلك العسكرية والأمنية. لكن الغالبية العظمى من أفعال وإجراءات تغيير تضاريس التربة أو ازالة طبقاتها العليا، وهي التي تحتفظ عبر العصور باستقرار تنوعها البيولوجي وخصوبتها ومقاومتها الطبيعية للتعرية، هي أفعال أنجزت لأسباب أخرى أهمها الحروب والدوافع الأمنية كما في حالة تجفيف الأهوار او تجريف النخيل.

غير ان أوضاع ما بعد 2003 لم تكن أقل تدميراً للبيئة وسطح التربة والتقليص المتعمد للغطاء الأخضر في البلاد نتيجة التمدد العشوائي للأحياء السكنية غير المجازة (يجري الآن تكييف قانوني لذلك التمدد غير القانوني). فقد جرت استباحة غير مسبوقة لفضاءات المدن ومحرمات الأنهر والأراضي الخصبة، بل انها طالت نسبة كبيرة من صحارى الهضبة الغربية وبادية السماوة.

في السنتين الأخيرتين على سبيل المثال جرت افعال تجفيف ما تبقى من الأهوار بقرارات ادارية، وساهمت الوزارة المسؤولة عن استدامة الأهوار بتجفيف اجزاء مهمة من مساحات الهور لم يستطع حتى النظام السابق من “إنجازها”. فقد جفف هور الحويزة بالكامل لأول مرة في تاريخه. ولكي تكتمل عملية التجفيف وفق “الوسائل الهندسية” فقد ساهمت الوزارة المسؤولة عن استدامة الأهوار في تنفيذ مشروع سدة الحويزة الترابية في داخل الهور، ومايزال إنشاء السدة جارياً لحد لحظة الكتابة هذه. استلهمت هذه السدة “الأمنية” التسميات السابقة التي استخدمت في عهد ما قبل 2003، إذ أنشأت سداد ترابية “أمنية” كبيرة لتسويق فكرة السيطرة الأمنية ومنع تسلل المهربين او المعارضين حينها. يجري حالياً إعادة نفس السيناريو وبنفس الحجج وهذا أمر خاطئ جملةً وتفصيلاً مع فارق أن ما جرى في ظل النظام السابق كان معلناً كسياسة رسمية للحكومة آنذاك، أما ما يجري من أمر السدة الترابية في هور الحويزة حالياً فهو أقرب الى السرية منه للعلنية المتعلقة بالأهداف المسوقة كتبرير لإنشائها.

أشيع في الأخبار القليلة التي نشرت مع الصور، ثم سحب بعضها من التداول، بأن السدة الترابية العراقية تقابل السدة الإيرانية، أي ان المهربين الذين يتسللون عبر السدة الإيرانية سيطاح بهم على السدة العراقية. لا شك في أن تحصين السيادة العراقية أمر ضروري وحساس، لكن الإختراقات وتسلل المهربين يجري في اماكن عديدة على طول الحدود وتنتهك السيادة عن طريق القصف للعديد من المواقع عبر الحدود، كما جرى لمرات عديدة في كردستان العراق، فكيف يمكن لسدة ترابية تسببت بأضرار اجتماعية كبيرة على مجتمع الأهوار فضلاً عن الأضرار في موقع مصنف على اعتباره من التراث الإنساني، منع التسلل وحماية السيادة والمجتمع؟

أما التلويث الجاري على قدم وساق لأنهار وقنوات ومنخفضات العراق فهو فعل تجرّمه القوانين النافذة، ولا علاقة للأمر بالتغير المناخي بتاتاً، وهذا يلقي مسؤولية كبيرة على الحكومة والمجتمع لمنع تلك الأفعال المتعمدة وذلك بإيجاد بدائل تتناسب مع مصلحة البلاد وتنسجم مع الإلتزامات الدولية الموثقة في اتفاقيات دولية العراق عضو فيها.

فالتغير المناخي المرتبط بالعصر الصناعي، والذي لم يعد هناك من يشكك في حدوثه إلا القلة القليلة، هو ظاهرة معقدة وانعكاساتها غير معروفة تماماً بعد، وكل متعلقاتها وإفرازاتها تدخل ضمن ما يمكن تسميته بحالة اللايقين، أي انها تفرز حالات ليست اكيدة بل محتملة، وخاصة على المستويات الوطنية. ولكن في العراق يبدو أن لدينا بعض “العباقرة” في علوم المناخ ممن يلصقون به كل ارتفاع او انخفاض في نسبة الرطوبة او العواصف الترابية او شحة في المياه وما شاكل ذلك، وأقترح ان يتوقفوا عن تصديع رؤوسنا بخطاباتهم او تحليلاتهم السطحية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

السوداني يؤكد التزام العراق بخطط أوبك

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram