نوزاد حسن

انتهت مباريات كأس العالم,وحصلت الارجنتين على البطولة.عاد ميسي الى بلده حاملا الكأس,وانشغل محبوه بالدفاع عنه,اما من يكرهه فقد امتدح رونالدو او مبابي.هذان الطرفان سواء من احب ميسي ومن كرهه اضاعوا درس هذا اللاعب العظيم.

قبل انتهاء البطولة قلت ان ارجنتين هذه السنة هي ارجنتين عام 1986.كنت واثقا بان فريق الارجنتين سياخذ الكاس دون ان يفقد جمال الاستعراض وقوة الاداء.وقد حدث ما توقعت.وستبقى هناك حكاية اخرى تتعلق ببطل البطولة وافضل لاعب فيها,لكن ماذا يمكن ان يقال عن ميسي,هذا اللاعب الاسطورة الذي سيعتزل بعد اعوام قليلة.هل يكفي ان نقارنه بمارادونا كما يحدث دائما.؟اظن ان المقارنة الان ستكون حاضرة بقوة بعد ان حمل ميسي الكاس لبلاده.واظن ان ما هو اهم من المقارنة رسالة ميسي الاخلاقية التي لم ينتبه لها الكثيرون.

هل انتبهنا جيدا لميسي وهو يلعب.لا اظن ذلك.ففي كل مبارياته نادرا ما كان يغضب او يلوّح بيده او يعترض.وحين يتعرض لضربة متعمدة,او لعب فيه خشونة,او او يمسك من الخلف لاسقاطه فانه كان يتابع اللعب ولا يسقط بسهولة.واذا سقط فانه لا ينزعج ممن اسقطه.ولعل اهم ميزة فيه انه لم يكن يقوم بحركات تمثيلية حين يوجه الحكم له انذارا.لو تابعنا طريقة لعبه سنجد اننا امام لاعب يعشق فن الاداء الفردي الذي يسحرنا.هذا الاداء الذي فيه تحد للفريق الخصم يجعلني احس بان ميسي يمارس حريته الكاملة على الرغم من كل قيود اللعبة.انه يتلاعب بنصف الفريق الذي يواجهه دون ان يفقد الكرة.ترى ما هذا الاصرار على هذا الاسلوب الفني الذي لا يتقنه سواه.؟كيف نفسر مراوغاته الرشيقة وانطلاقته السريعة,وافلاته من اية رقابة تفرض عليه.هل نقول جوابا عن هذه الاسئلة انه موهوب,ومهاري الى درجة كبيرة.اظن ان هذه الاجابة غير مقنعة,ولا تفسر لغز هذا اللاعب الاسطورة.

ما يفعله ميسي غير عادي.انه بكلمة ادق صورة جديدة لواقعية سحرية تصنعها اقدامه.ومن يظن ان الواقعية السحرية ارتبطت بالرواية في امريكا اللاتينة فهو مخطيء.ان ميسي بكل براعته واهدافه هو صورة اخرى لفن واقعي سحري.انه حر غير مقيد ابدا.وهذا هو الفرق بينه وبين مئات اللاعبين الذين يخضعون لقانون اللعبة,ولضغط الخصم فلا يستمرون في صنع شخصية لها مميزات وقيمة ميسي.لذا يعلمنا هذا اللاعب ان نكون واثقين ونحن نواجه مشاكل حياتنا.فالخصم في الملعب هو الخصم في اي مكان اخر.وعند مواجهته علينا ان نكون مندفعين اقوياء وغير منكسرين.ان كل هدف من اهداف ميسي يحمل هذه الرسالة.ان نواجه قيود الواقع ونتغلب عليها.ولا نكتفي بدور بسيط لا جرأة فيه.

اذن اول رسائل ميسي لنا هي امكانية ان نكون احرارا في سلوكنا كما كان هو حرا في الملعب.وتاتي الرسالة الثانية بليغة جدا حين حمل الكاس بعد محاولتين فاشلتين او ثلاث.لقد تحمل النقد,والخوف من الاعتزال دون حمل كاس العالم.وفي اخر محاولة نجح ميسي,وظهر امامنا لاعبا اضاف لتاريخه مجدا اخر.

الاصرار بهذا المعنى هو كفاح للحصول على اللقب.يبدو ان ميسي تعلم من تجربته السابقة جيدا.كما ان خسارة منتخب الارجنتين مع السعودية لم تؤثر في اداء المنتخب.هذا بحد ذاته درس مهم لنا جميعا.

الحرية والاصرار هما صفتا ميسي اللتان تميزانه عن غيره من لاعبي كرة القدم.ومن الخطأ الاعتقاد ان وظيفة ميسي هي تقديم المتعة وتسجيل الاهداف الجميلة.هناك ما هو اعمق من هذا الانطباع البسيط.علينا ان نحس بميسي وهو يذوب في فنه الكروي.ان كل هدف يسجله هو في حقيقة الامر استعارة جميلة من استعارات بورخس.وقد قلت هذا سابقا حين اشرت في احد مقالاتي الى ان استعارات بورخس هي اهداف مارادونا,والان اقول ان اهداف ميسي هي ايضا استعارات بورخس.هذا يعني ان الفنون تقترب من بعضها في منحنا الاحساس بالحرية والجمال.

لذا يمكنني القول لو اضاع ميسي ضربة جزاء فهذا يعني ان بورخس لم يعثر على الجملة المناسبة التي يبدأ بها قصة من قصصه.الاخفاق واحد وطعمه مر.وعلينا ان نخرج ميسي من حدود الملعب لنحس به في سياق اخر غير كروي,ولنحاول ان نفهمه كاحد معلمي الحرية والجمال في زمننا.هذا يعني ان ميسي هو لاعب كرة قدم بروح تنتمي لكل الموروث الجمالي الانساني.انه يقدم لنا واقعيته السحرية باقدامه كما قدمها بورخس في قصصه.