طالب عبد العزيز
الذي تخطّفه الموتُ كان شاعراً، ليس في البصرة على عِظمها آخرٌ سواه، لم يقرأ شعراً في الساحة، التي يقف خلف مقبرتها الشعراءُ الآن. يصبغون أحذيهم كي قصائدهم أنيقةً، هي تزدحم بهم، فيما هو، على كرسيّه ذاته، في المقهى ذاته، وبالقلم الرصاص الصغير ذاته، ينقذ القصيدة المكتوبة على بحر الخفيف . كان حصير المقهى خوصاً، حين مرَّ بائع الكوكي امامه، وهو يضحك، لم يجر خلف أحدٍ، لكنَّ الشوارع وأرفف المكتبات ودكاكين البقالة في السوق مازالت تجري خلفه، وهو آخذ الطريق الى النقطة الغامضة في الخريطة.
يقول: الريحُ لا تعرف القراءة، فيما الصنوبرة بأصيصها الضيّق تشوكُ الرسَّام، وهو يقلبُ الصورة على صفحة الغلاف، فيما الشاعرُ يأخذ عن ريلكة قوله: “من لا يبني بيتا الان، لن يبني بيتا فيما بعد”. كانت الخليليةُ خِربةً أو طريقاً الى دارته، ببابها الخشب المطلي بالشمس، خلف المبنى القديم لشركة النقل البحري، هو يأتيها من الشارع المنفلت في الرؤيا، من الزقاق الذي تجلس النساءُ على عتبات بيوته حسب، ثم لا يهتدي اليه أحدٌ، وما النهار بدالة عليه... يقول عبد الرزاق حسين ماكنت أعرفه: محمد صالح عبد الرضا عرض اسمه عليّ فلم أنكره، ذاك الذي يحمل وزر الكتاب الى بيته كل يوم، ويسرِّح القميص على بنطاله، حتى إذا أسلمته المركبةُ الى أطراف النهر استقل زورقاً، ومن هناك، في الماء الغامض البعيد راح يحفظ، وعن ظهر قلب صورة المدينة.
وفي الحرب، التي كانت، وبعد قذائف كثيرة لا لم تمهله، أبدل المقهى بمقهى أخرى، ومن المقهى حيث مكثنا قليلاً، حملنا الهلع والقصائد والكتب مع أقداح الشاي الى الثالثة، التي عند دكانة بائع الجبن. قال: “نرعى أزهار خرائطنا عند العتبة/ نتذاكر أسلافا موتى، من يتذكرنا؟” ظلت القذائف تسقطُ لكنَّ يده مازالت مُشعرةً، ممسكةً على نول القصيدة، يضعُ اصبعه على مفردة خشنة فيها، ثم يغلقها فتسوّد، المفردةُ اقصد، لا القصيدة. فهي تشرقُ بين أصابعة، ثم تأخذ شكلها الأخير في شتيمة، أو لا تأخذه، فهي في كمالها الآن.. وفي المساء، الذي يقبل من السوق دائماً، إذا ما تزحزحَت الشمسُ قليلاً، ووريَّ التراب، أو تمادى في قفص النور عندليب الأسى، أخرج أغنيته القديمة، وتركنا، ملوّحاً بمناديل لا ترى.. لا الخليلية ولا المشراق ولا المنزل الأخير بحي العباس ولا المقبرة ايضاً حفظت عنه ما أراد، ذاك الذي اصطفى من الكتب أنفسها، ولم يأخذ عن أحدٍ سواه.
الشاعرُ الذي تعبرهُ المارّةُ الى الساحة، ولم يُرَ على منبرها يوماً ، ولا يتذكره أحدٌ الآن، كان يحملُ وبكيس من الورق الكالح بيتهُ الصغير، ينام في غرفاته الموحشة مرةً، او يكتبه على تخت المقهى قصيدة أخرى، مازال يضيّقُ من عينيه كلما صادفته في مفازة، يسخر أو يبتسم، لكنَّ الورقة المطويّة دونما عنايةٍ، لا تقرُّ في جيبه، هو يستلها ويعيدها، ويستلها ثانية ثم يعيدها والقلم الرصاص يزيدها سواداً. الأحرف الناعمة تنامُ لصق بعضها، تختلف على بعضها، تتودد الى بعضها، تشتم بعضها، تهزأ من بعضها.. هكذا تكتمل القصيدة، غير أنه، وكمن يتخلص من إثم يلقي بها تحت أقدام المارّة. الشاعر الذي ظلَّ يرقبهم واحداً واحداً يستخلصُ من ألوان اللوحة ما يعجبه، ويتحدث عن لوركا طويلاً، وعن أحمد أمير... يغفو في كرسيِّ المستشفى، وعمّا قريب سياتي الطبيب ليجزُّ اصبعه، ثم ياتي الطبيب، لا ليجزَّ اصبعاً آخر، إنما ليقول كلمة أخيرة.. الكلمة التي خطها الشاعر حسين عبد اللطيف:” قد كان ما كان.. فما للاسف/ الان من معنى/ قد يلمُس الاعمى/ قرارة الهاوية/ ويالف السكنى» .