لطفية الدليمي
القسم الاول
مفتتح أشبه بخاتمة
في طائرة الخطوط الملكية الاردنية المغادرة من مطار شارل ديغول إلى عمّان ، أنا في المقعد المواجه لقمرة القيادة ،
في درجة رجال الأعمال ، الكرسي المريح والمسافة السخية لإراحة الساقين ميزة من ميزات الثراء . عندما تكون ثرياً يتاح لك أن تشعر بكرامة جسدك المرتاح كلياً وكرامة نفسك التي طالتها أنواع من الضيق والأذى في أجمل مدن العالم .
كنت أقف في صف المسافرين استعداداً لصعود الطائرة .
سلمت تذكرة الصعود لموظف الطيران المبتسم :
- السيدة ، ستكون رحلتك معنا في درجة رجال الاعمال ، وانتما ايضا ايها السيدان ، فلان وفلان ، تمتعوا بالرحلة على الخطوط الملكية الاردنية ، الكابتن ( ... ) يحتفي بكم .
لم أسأل ولم أعرف سبب الكرم المفاجئ في هذه الرحلة ؛ لكنني شعرت بالامتنان والاستبشار .
في الطائرة كنت طليقة وحرة كما لم أكن من قبل ؛ لكن بذرة رهبة كانت تتململ في القلب ، بين الحرية والموت خيط سري لاينفك يلتف حول أعناقنا ، أتذكر مقولة ميشيل مونتاني :
( إن التفكّر في الموت هو تفكّر في الحرية )
أرى العالم في الطائرة على غير ما خدعتني به أحلامي وخبرات العيش ، من نوافذ الطائرة كان عالم آخر يتشكل مغايراً لعالم باريس العظيمة التي غادرتها ، ومناقضاً لعالم بغداد الكارثي الذي نجوت من فخاخه . هنا يبدأ الزمن من رحلة باتجاه الشرق ، الزمن والمكان يتلازمان ، الغيوم الرمادية تحتنا تقترح مطراً غزيراً على القارة والبحر ، حُمْقُ المخاوف يهمس لي :
ماذا لو سقطت الطائرة على الالب أو في بحيرة جنيف ؟ ماذا لو نادى البحر مصائركم لتحتضنكم ملوحته وزرقته الزائفة ليقدمكم أضحيات لمسار الزمن ؟
نحن الان فوق الزمن وفيه ، جسم الطائرة يخترق الزمن العائد الى المشرق او الراحل نحو مساء مبكر . حُمْقُ التخيلات المضطربة يرعش القلب ، كم خَبَرَتْ عقولنا من حماقات الحرب ؟
يتردد شيء ما في الذاكرة : خَبَرْنا من الحمق أكثر مما تحتمل الحياة وعقولنا ، واقترفنا بدورنا حماقات أسوأ من أن تغتفر لأننا عوّلنا كثيراً على أفكار محلقة وموروث انساني أنجزه فلاسفة ومفكرون وكتّاب في آفاقهم وأحلامهم فشكّلوا أفقنا وأحلامنا .
الخيال يهزم الواقع لبرهة لكنه يعجز أحياناً عن التقاطنا من الحفرة التاريخية التي أُلقينا فيها طوال عصور من الكبت والقمع وملاحقة كل ومضة ضوء في عقولنا المتمردة .
كانت روحي تطفو في هواء البلاد الملوث ، ودخانُ الانفجارات يسلب أنفاسي أنا المأزومة بالربو التحسسي ، كنت أعوم وسط ذلك الرعب وكأنني أعلن نفسي للرصاص في جنون عار التقاتل ، أجدني هشة كقبضة رماد ، أو كأنقاض منزل تهاوى في زلزال أو حريق ثم بغتة أطفو في الفراغ ، هل أصرخ ؟ هل هي رؤيا أم شذرة من ذاكرة ؟
كلا ، عليكِ أن تخرسي فأنت في مدينة لم تعد بغداد التاريخ العاصف والموسيقى والمقامات بل أضحت مدينة تخط تاريخ القسوة بالدم وترسم الغد بالرماد .
في الصمت أهدهد قلبي كطفل يتيم منبوذ ، أتحسس الرجفة في العروق كلها وأهمس له :
- غريبٌ أينما يعصف بك النوء أيها القلب ، مستوحشٌ وسط الحشود ، لا المدن تغيثك ولاالوصول مرامك ، لاالترحال بُغيَتك ولا المكوث في السراب . فإلى أين تمضي بك الرحلة الخادعة ؟؟
برهةٌ من سلام قد تحملك إلى المرتقى ، برهة من العتمة قد تختم الحكاية ، فلا توصد الاحتمالات على حلمك أيها البحر .
يعترض القلب :
- لكني لست بحراً
- وماذا ستفعل لو كنت بحرا ؟
- كنت سأمضي موثقاً بأنين الغرقى ، توقظني من صدمة التاريخ صيحات القراصنة وغواصات الشرق والغرب ، لو كنت بحراً لكان الملح تعويذتي من عفن الحياة البشرية الآيلة للتفسخ
- وماذا كنت ستصير إليه أيها المرتعش هلعاً ؟
- كنت سأتحرر منكم جميعاً ، أنتسب للقارات بمشيئتي : لا عِرق أنتمي إليه ولا أسلاف يحاصرون حاضري بالأنساب والقداسة الزائفة وتلفيقات البطولة وترّهات القبيلة والأقوام الفضلى .
لو كنت بحراً لكنت سعيداً ، وكنت غدوت وطن نفسي وأكتفيت بأوهام سعادتي : ماءً مالحاً يطهّرُ كل شيء وتستحم فيه الشهب والنجوم ، لو كنت بحراً لتموجَتْ مياهي بقوة اليأس ، اليائسون يستميتون من أجل الحياة ، يساعدون ويضحّون ، لكنت اليائس الذي يحمل المدن إلى أحلامها والبحارة الى أحضان معشوقاتهم وسفن المسافرين إلى موانئ البهجة ، لو كنت البحر لنجوت من حروب الغرب والشرق و أثقال الايديولوجيات الضاغطة ولما كابدت الخيانات والوشايات في مدنكم ، ولما أرهبتني تحديقة الذئاب في المطارات والحدود ، ولما تفجرت غيظاً وتصاعد نبضي وأنا أراهم ينقبون في جواز سفركِ المنبوذ ؛ فأنت تحملين جواز سفر عادياً لايشبه جوازات أهل السلطة ومن حولهم ومن يدور في أفلاكهم ، ويأمرونكِ :
- انتظري جانباً .
أدرك غضبك مني ومنهم أيها القلب النافر ، كنت أستسلم وأنتظر وتمضي ساعة وإثنتان وأكثر فلا ينادونني ، تلك مذلة المغادرة والهبوط في مطارات عربية بجواز سفر منبوذ ؛ لذا زهدت في السفر وما عدت أطيق النظرة المرتابة وأنا أمرّ أمام نوافذ الفاحصين المشككين في المطارات العربية أو الأخرى الغريبة .
البلاد المنتحبة
سمعتها تنتحب ، من الأعالي وأنا في طائرة تحلق لولبياً فوق دجلة حين خروجي الى متاهة العالم وأنا ألقي نظرة جزع على غابات النخيل الشاسعة وانحناءات دجلة ، سمعت نحيبها الجارح مختلطاً بالموسيقى التي تُبث في الطائرة ، سمعت نحيبها وأنا أتنقل بين المدن من شرقنا المسبيّ إلى الغرب المتماسك المحروس بصمغ القانون والحداثة ، صمَّ النحيب مسمعي ولبث يتردد في رأسي ويضنيني .
ذات ليلة في فندق ( عدن ) الصغير في شارع ( بلوميه ) باريس 15 في غرفتي الحزينة ، اكتشفت أنها ليست بلادي التي كانت تنتحب ، ليست بغداد التي تبكي ، كم أوهمتني غشاوة العاطفة ، كان قلبي هو الذي ينشج وحيداً ويتفطر ولكنه يقاوم ليُبقي نبضه حياً ، كان يؤنبني :
- ها أنت تجوبين المدن ، ها أنت تترحلين بين الحروب وأنقاض الأزمنة ، لم تأبهي عندما حذرتْكِ النُذُر قبل عقود ، وها أنت تكتشفين خداع كل النظريات والايديولوجيات التي حفلت بها الكتب ومدونات الحكماء وإعلان حقوق الانسان ، تجدينها مقلوبة على قفا حقيقتها الزائفة ، فأينما وجهتِ خطوكِ كان ثمة ظلم ، كانت مقادير ظلم تختلف ، حجم التمييز يتعاظم ، قيمة الانسان تُثمّنُ بلونه وعرقه ولغته في مدن تقدس القانون علانية وتنخرط سراً في نزعة التمييز الضاربة جذورها في ذاكرة البشر .
توقفْ أيها القلب المنتحب واصمد - قلت له - ، لابديل لك ،كل البلاد تقوم على التمييز وتبديد كرامة الانسان بطرق معلنة أو ناعمة مموهة ، سواء في البلد المحترق المسمى وطناً أو في البلاد الأخرى ، يهمس القلب منتفضاً في اعتراضه : تقولين الوطن ؟
ما الوطن سوى مفردة تموه عجز البشر عن التحرر ، ابتذلها الطغاة والمبشرون بالنعيم ، كلمة تعكّز عليها القتلة والفاتحون كما فعل نابليون وهتلر وستالين وموسوليني ، وأُعلـِنت الحروب على ايقاعها واقترفت المجازر والابادة العرقية والدينية على وقع أناشيد تمجدها ، الوطن أسطورة هشة ، إنه خديعة اللغة إذ تزين لنا الحرب على أنها مأثرة ، وتجمّل الاصطبار على الذل على أنه بطولة ، وتمجد الصمت على الظلم على أنه الترفع والزهد .
الوطن تاريخ الدم المسفوح في كل عصر على عتبات الأمهات ، وهو الرؤوس المقطوعة تشير إلى تغول المتوحشين ، وهو جثث الأبناء تُلقى في النهرين العظيمين أضحياتٍ لافتداء اللصوص والحكام .
- توقف عن اللوم أيها القلب الوحيد ، واهدأ ايها العقل ، المدن كلها أكّالة قلوب البشر، مع مكائدها تتضامن رياح النظام العالمي المهووس بالدم والأرصدة ، النظام الذي يرسل حاملات الطائرات والفرقاطات والغواصات لاغتصاب البلدان التعيسة التي أذلّها طغاتُها ، فتتقاذفنا الأهوال بين هذه المدن هاربين من محرقة إلى متاهة ، نخادع وعينا بضحكة أو إدعاء بهجة لئلا تُفتَضَحَ جراحنا وخيباتنا ، نُموِّه نشيجنا المكتوم وتوقنا الأخرق للخلاص، فسواءٌ هنا أوهناك وأينما تلقي بنا دوامة أقدارنا ، حيث لاوطن وحينما لاخلاص ولا نجاة ، سوف تتكشف لنا الحياة فخاً مغوياً كم انخدعنا به ، وسوف نعرف متأخرين أنّ النظريات والمفاهيم السياسية عملة زائفة ولعبة مقامرين بمصائرنا ، الانتظار خدعة العاجز ، والأمل أحبولة الهارب المتورط .
لاالترحال بغيتنا ولا المكوث في السراب ؛ فكيف ننجو وورطتنا أكبر من احتمال النجاة ؟
( من فضلكم أربطوا الأحزمة . سنهبط بعد قليل في مطار الملكة علياء في عمان والساعة تشير الى السابعة مساء في اليوم التاسع من تشرين الثاني 2008 ودرجة الحرارة في عمان 14 مئوية .. )
يختم ضابط أمن المطار جواز اللجوء المؤقت – وثيقة سفر - الصادرة عن مديرية بوليس باريس بتوقيع ( جاك كوستانا ) بتاريخ 12-2-2008 وتنتهي بتاريخ 2 - 11 - 2010 .
بهذا الختم إنتهت مهمة هذه الوثيقة .