اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كُرّاساتي الباريسية : لاالترحالُ بغيتك ولاالمكوثُ في السراب

كُرّاساتي الباريسية : لاالترحالُ بغيتك ولاالمكوثُ في السراب

نشر في: 3 يناير, 2023: 11:41 م

لطفية الدليمي

القسم الاول

مفتتح أشبه بخاتمة

في طائرة الخطوط الملكية الاردنية المغادرة من مطار شارل ديغول إلى عمّان ، أنا في المقعد المواجه لقمرة القيادة ،

في درجة رجال الأعمال ، الكرسي المريح والمسافة السخية لإراحة الساقين ميزة من ميزات الثراء . عندما تكون ثرياً يتاح لك أن تشعر بكرامة جسدك المرتاح كلياً وكرامة نفسك التي طالتها أنواع من الضيق والأذى في أجمل مدن العالم .

كنت أقف في صف المسافرين استعداداً لصعود الطائرة .

سلمت تذكرة الصعود لموظف الطيران المبتسم :

- السيدة ، ستكون رحلتك معنا في درجة رجال الاعمال ، وانتما ايضا ايها السيدان ، فلان وفلان ، تمتعوا بالرحلة على الخطوط الملكية الاردنية ، الكابتن ( ... ) يحتفي بكم .

لم أسأل ولم أعرف سبب الكرم المفاجئ في هذه الرحلة ؛ لكنني شعرت بالامتنان والاستبشار .

في الطائرة كنت طليقة وحرة كما لم أكن من قبل ؛ لكن بذرة رهبة كانت تتململ في القلب ، بين الحرية والموت خيط سري لاينفك يلتف حول أعناقنا ، أتذكر مقولة ميشيل مونتاني :

( إن التفكّر في الموت هو تفكّر في الحرية )

أرى العالم في الطائرة على غير ما خدعتني به أحلامي وخبرات العيش ، من نوافذ الطائرة كان عالم آخر يتشكل مغايراً لعالم باريس العظيمة التي غادرتها ، ومناقضاً لعالم بغداد الكارثي الذي نجوت من فخاخه . هنا يبدأ الزمن من رحلة باتجاه الشرق ، الزمن والمكان يتلازمان ، الغيوم الرمادية تحتنا تقترح مطراً غزيراً على القارة والبحر ، حُمْقُ المخاوف يهمس لي :

ماذا لو سقطت الطائرة على الالب أو في بحيرة جنيف ؟ ماذا لو نادى البحر مصائركم لتحتضنكم ملوحته وزرقته الزائفة ليقدمكم أضحيات لمسار الزمن ؟

نحن الان فوق الزمن وفيه ، جسم الطائرة يخترق الزمن العائد الى المشرق او الراحل نحو مساء مبكر . حُمْقُ التخيلات المضطربة يرعش القلب ، كم خَبَرَتْ عقولنا من حماقات الحرب ؟

يتردد شيء ما في الذاكرة : خَبَرْنا من الحمق أكثر مما تحتمل الحياة وعقولنا ، واقترفنا بدورنا حماقات أسوأ من أن تغتفر لأننا عوّلنا كثيراً على أفكار محلقة وموروث انساني أنجزه فلاسفة ومفكرون وكتّاب في آفاقهم وأحلامهم فشكّلوا أفقنا وأحلامنا .

الخيال يهزم الواقع لبرهة لكنه يعجز أحياناً عن التقاطنا من الحفرة التاريخية التي أُلقينا فيها طوال عصور من الكبت والقمع وملاحقة كل ومضة ضوء في عقولنا المتمردة .

كانت روحي تطفو في هواء البلاد الملوث ، ودخانُ الانفجارات يسلب أنفاسي أنا المأزومة بالربو التحسسي ، كنت أعوم وسط ذلك الرعب وكأنني أعلن نفسي للرصاص في جنون عار التقاتل ، أجدني هشة كقبضة رماد ، أو كأنقاض منزل تهاوى في زلزال أو حريق ثم بغتة أطفو في الفراغ ، هل أصرخ ؟ هل هي رؤيا أم شذرة من ذاكرة ؟

كلا ، عليكِ أن تخرسي فأنت في مدينة لم تعد بغداد التاريخ العاصف والموسيقى والمقامات بل أضحت مدينة تخط تاريخ القسوة بالدم وترسم الغد بالرماد .

في الصمت أهدهد قلبي كطفل يتيم منبوذ ، أتحسس الرجفة في العروق كلها وأهمس له :

- غريبٌ أينما يعصف بك النوء أيها القلب ، مستوحشٌ وسط الحشود ، لا المدن تغيثك ولاالوصول مرامك ، لاالترحال بُغيَتك ولا المكوث في السراب . فإلى أين تمضي بك الرحلة الخادعة ؟؟

برهةٌ من سلام قد تحملك إلى المرتقى ، برهة من العتمة قد تختم الحكاية ، فلا توصد الاحتمالات على حلمك أيها البحر .

يعترض القلب :

- لكني لست بحراً

- وماذا ستفعل لو كنت بحرا ؟

- كنت سأمضي موثقاً بأنين الغرقى ، توقظني من صدمة التاريخ صيحات القراصنة وغواصات الشرق والغرب ، لو كنت بحراً لكان الملح تعويذتي من عفن الحياة البشرية الآيلة للتفسخ

- وماذا كنت ستصير إليه أيها المرتعش هلعاً ؟

- كنت سأتحرر منكم جميعاً ، أنتسب للقارات بمشيئتي : لا عِرق أنتمي إليه ولا أسلاف يحاصرون حاضري بالأنساب والقداسة الزائفة وتلفيقات البطولة وترّهات القبيلة والأقوام الفضلى .

لو كنت بحراً لكنت سعيداً ، وكنت غدوت وطن نفسي وأكتفيت بأوهام سعادتي : ماءً مالحاً يطهّرُ كل شيء وتستحم فيه الشهب والنجوم ، لو كنت بحراً لتموجَتْ مياهي بقوة اليأس ، اليائسون يستميتون من أجل الحياة ، يساعدون ويضحّون ، لكنت اليائس الذي يحمل المدن إلى أحلامها والبحارة الى أحضان معشوقاتهم وسفن المسافرين إلى موانئ البهجة ، لو كنت البحر لنجوت من حروب الغرب والشرق و أثقال الايديولوجيات الضاغطة ولما كابدت الخيانات والوشايات في مدنكم ، ولما أرهبتني تحديقة الذئاب في المطارات والحدود ، ولما تفجرت غيظاً وتصاعد نبضي وأنا أراهم ينقبون في جواز سفركِ المنبوذ ؛ فأنت تحملين جواز سفر عادياً لايشبه جوازات أهل السلطة ومن حولهم ومن يدور في أفلاكهم ، ويأمرونكِ :

- انتظري جانباً .

أدرك غضبك مني ومنهم أيها القلب النافر ، كنت أستسلم وأنتظر وتمضي ساعة وإثنتان وأكثر فلا ينادونني ، تلك مذلة المغادرة والهبوط في مطارات عربية بجواز سفر منبوذ ؛ لذا زهدت في السفر وما عدت أطيق النظرة المرتابة وأنا أمرّ أمام نوافذ الفاحصين المشككين في المطارات العربية أو الأخرى الغريبة .

البلاد المنتحبة

سمعتها تنتحب ، من الأعالي وأنا في طائرة تحلق لولبياً فوق دجلة حين خروجي الى متاهة العالم وأنا ألقي نظرة جزع على غابات النخيل الشاسعة وانحناءات دجلة ، سمعت نحيبها الجارح مختلطاً بالموسيقى التي تُبث في الطائرة ، سمعت نحيبها وأنا أتنقل بين المدن من شرقنا المسبيّ إلى الغرب المتماسك المحروس بصمغ القانون والحداثة ، صمَّ النحيب مسمعي ولبث يتردد في رأسي ويضنيني .

ذات ليلة في فندق ( عدن ) الصغير في شارع ( بلوميه ) باريس 15 في غرفتي الحزينة ، اكتشفت أنها ليست بلادي التي كانت تنتحب ، ليست بغداد التي تبكي ، كم أوهمتني غشاوة العاطفة ، كان قلبي هو الذي ينشج وحيداً ويتفطر ولكنه يقاوم ليُبقي نبضه حياً ، كان يؤنبني :

- ها أنت تجوبين المدن ، ها أنت تترحلين بين الحروب وأنقاض الأزمنة ، لم تأبهي عندما حذرتْكِ النُذُر قبل عقود ، وها أنت تكتشفين خداع كل النظريات والايديولوجيات التي حفلت بها الكتب ومدونات الحكماء وإعلان حقوق الانسان ، تجدينها مقلوبة على قفا حقيقتها الزائفة ، فأينما وجهتِ خطوكِ كان ثمة ظلم ، كانت مقادير ظلم تختلف ، حجم التمييز يتعاظم ، قيمة الانسان تُثمّنُ بلونه وعرقه ولغته في مدن تقدس القانون علانية وتنخرط سراً في نزعة التمييز الضاربة جذورها في ذاكرة البشر .

توقفْ أيها القلب المنتحب واصمد - قلت له - ، لابديل لك ،كل البلاد تقوم على التمييز وتبديد كرامة الانسان بطرق معلنة أو ناعمة مموهة ، سواء في البلد المحترق المسمى وطناً أو في البلاد الأخرى ، يهمس القلب منتفضاً في اعتراضه : تقولين الوطن ؟

ما الوطن سوى مفردة تموه عجز البشر عن التحرر ، ابتذلها الطغاة والمبشرون بالنعيم ، كلمة تعكّز عليها القتلة والفاتحون كما فعل نابليون وهتلر وستالين وموسوليني ، وأُعلـِنت الحروب على ايقاعها واقترفت المجازر والابادة العرقية والدينية على وقع أناشيد تمجدها ، الوطن أسطورة هشة ، إنه خديعة اللغة إذ تزين لنا الحرب على أنها مأثرة ، وتجمّل الاصطبار على الذل على أنه بطولة ، وتمجد الصمت على الظلم على أنه الترفع والزهد .

الوطن تاريخ الدم المسفوح في كل عصر على عتبات الأمهات ، وهو الرؤوس المقطوعة تشير إلى تغول المتوحشين ، وهو جثث الأبناء تُلقى في النهرين العظيمين أضحياتٍ لافتداء اللصوص والحكام .

- توقف عن اللوم أيها القلب الوحيد ، واهدأ ايها العقل ، المدن كلها أكّالة قلوب البشر، مع مكائدها تتضامن رياح النظام العالمي المهووس بالدم والأرصدة ، النظام الذي يرسل حاملات الطائرات والفرقاطات والغواصات لاغتصاب البلدان التعيسة التي أذلّها طغاتُها ، فتتقاذفنا الأهوال بين هذه المدن هاربين من محرقة إلى متاهة ، نخادع وعينا بضحكة أو إدعاء بهجة لئلا تُفتَضَحَ جراحنا وخيباتنا ، نُموِّه نشيجنا المكتوم وتوقنا الأخرق للخلاص، فسواءٌ هنا أوهناك وأينما تلقي بنا دوامة أقدارنا ، حيث لاوطن وحينما لاخلاص ولا نجاة ، سوف تتكشف لنا الحياة فخاً مغوياً كم انخدعنا به ، وسوف نعرف متأخرين أنّ النظريات والمفاهيم السياسية عملة زائفة ولعبة مقامرين بمصائرنا ، الانتظار خدعة العاجز ، والأمل أحبولة الهارب المتورط .

لاالترحال بغيتنا ولا المكوث في السراب ؛ فكيف ننجو وورطتنا أكبر من احتمال النجاة ؟

( من فضلكم أربطوا الأحزمة . سنهبط بعد قليل في مطار الملكة علياء في عمان والساعة تشير الى السابعة مساء في اليوم التاسع من تشرين الثاني 2008 ودرجة الحرارة في عمان 14 مئوية .. )

يختم ضابط أمن المطار جواز اللجوء المؤقت – وثيقة سفر - الصادرة عن مديرية بوليس باريس بتوقيع ( جاك كوستانا ) بتاريخ 12-2-2008 وتنتهي بتاريخ 2 - 11 - 2010 .

بهذا الختم إنتهت مهمة هذه الوثيقة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram