TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > قضية الدولار بين الخارج والداخل

قضية الدولار بين الخارج والداخل

نشر في: 4 يناير, 2023: 10:53 م

د. اسامة شهاب حمد الجعفري

كل شيء في العراق لم يعد ملكاً خالصاً له. فسياسة الداخل يجب ان تتوافق مع متطلبات الخارج , و اقتصاد الداخل يجب ان يتسق والاقتصاد العالمي. فعضوية العراق في المجتمع الدولي فرض عليه التزام دولي هو “موائمة” قوانينه الداخلية مع المعاهدات الدولية التي وقعها وهذا ما يسمى “عولمة القوانين”.

قضية الدولار التي شغلت الداخل واربكته في الايام الاخيرة بعد زيادة سعر صرفه في الاسواق العراقية هي من القضايا التي لم تعد ملكاً خالصاً له فالسياسة النقدية التي يتبناها العراق داخلياً مرتبطة خارجياً بالسياسة النقدية العالمية التي يقودها صندوق النقد الدولي. وهذا الارتباط خلق ثنائية بقضية سعر الدولار بين طلب (الخارج) بضرورة اصلاح اقتصاد العراق من خلال تحرير سعر الدولار و بين (الداخل) الذي يطالب باستمرار الدعم الحكومي للاسواق من خلال تقييد سعر الدولار بسعر محدد, و تحولت هذه الثنائية من علاقة رسمية الى علاقة جدية تتطلب اقامة التوازن الحقيقي بينهما وهذا هو التحدي للدولة العراقية . و ابين مفصليات هذه الثنائية بالنقاط الاتية:

اولاً: بداية العلاقة الرسمية بين العراق و صندوق النقد الدولي

دخل العراق رسمياً بعضوية صندوق النقد الدولي بقانون رقم 42 لسنة 1945 و ساهم بمبلغ (8 مليون دولار) ثم زادت مساهمة العراق بالصندوق الى (15 مليون دولار) عام 1959 ثم الى (80 مليون دولار) بقانون 45 لسنة 1965 ثم الى 234 مليون من حقوق السحب الخاصة بقانون رقم 36 لسنة 1980 و عام 2016 بلغت حقوق السحب الخاصة للعراق(1.664) مليار و ستمائة و اربعة وستون مليون من حقوق السحب الخاصة بما يعادل مليارين و خمسمائة مليون دولار امريكي للاستفادة من مزايا الصندوق كقروض بفائدة صفرية او بفائدة اقل من سعر السوق. او ان يكون الصندوق الجهة الضامنة للقروض الممنوحة من دول اخرى, هذه القروض تستهدف مساعدة الدول الاعضاء على تعويض العجز في ميزان المدفوعات ودعم سياسة الاصلاح الاقتصادي ولكن هذه القروض مشروطة بالتحول الى اقتصاد السوق وترك التجارة و سعر الصرف للعملة الوطنية لقوانين العرض والطلب بتخفيض الانفاق الحكومي وان عدم امتثال الدولة طالبة القرض لهذه المعايير يجعلها غير مؤهلة.

اولاً: بداية جدية العلاقة بين (الداخل) و(الخارج) بشان قضية الدولار

بدأت العلاقة الجادة بين العراق وصندوق النقد الدولي بعد عام 2003 فبعد الحروب و الحصار و اسقاط النظام الذي صاحبه انهيار تام للبنى التحتية وجد النظام السياسي الجديد في العراق نفسه يواجه (الخارج) و(الداخل) بتحديات كبيرة ,اذ وجد نفسه يواجه (الخارج) بمديونية خارجية تقدر بـ(547 مليار دولار) بين ديون و تعويضات بسبب افعال النظام السابق , ويواجه (الداخل) بمتطلبات اعادة اعمار البنى التحتية المنهارة و تحسين الوضع الاجتماعي للفرد العراق , فلم يجد طريقاً غير اللجوء الى صندوق النقد الدولي لاجل محاولة جدولة هذه الديون الثقيلة من خلال (نادي باريس) لتسخير بقية واردات النفط نحو (الداخل) في اعمار العراق, و في سبيل تخفيض الديون من قبل هذا النادي والحصول على القروض الحسنة لابد للعراق ان يحصل على شهادة (حسن السلوك والسيرة) من قبل صندوق النقد الدولي ليكون مؤهلاً لنيل الثقة في المجتمع الدولي و هذا الصندوق بدوره يفرض شروط ثابتة غير قابلة للتفاوض في قمتها تحرير سعر الصرف الاجنبي و تخفيض الدعم الحكومي في شتى مفاصل الاقتصاد في (الداخل) . و تستهدف هذه القروض تقلل العجز في ميزان مدفوعاته تجاه (الخارج) التي كونتها الديون الخارجية على العراق. وبعد ذلك بدأت مرحلة جديدة دشنت جدية العلاقة بين العراق و صندوق النقد الدولي علاقة (الداخل) و (الخارج) هي ظهور العجز في الموازنات ابتداءاً منذ الازمة المالية عام 2014 ولغاية 2022 بسبب هبوط سعر النفط و احتياج العراق الى اموال لتمويل الحرب ضد (داعش) ثم جائحة كورونا و هبوط سعر النفط مرة ثانية , كان العراق يعاني من عجز كبير في موازنته و كان هذا العجز يعوض من القروض الخارجية مرة اخرى سواء من صندوق النقد الدولي او من دول اخرى و بضامنة صندوق النقد الدولي من خلال شهادة (الاهلية) التي يمنحها هذا الصندوق للعراق يثبت اهليته , وهذا يعني عودة دورة الديون الخارجية من جديد التي سبق و ان تخلص العراق من 80% من هذه الديون. و احتياج العراق لصندوق النقد الدولي يعني التزامه بالشروط التي يفرضها هذا الصندوق في قمتها تحرير سعر الصرف الاجنبي (الدولار).

ثانياً: اثر طلب (الخارج) بتحرير سعر الدولار على (الداخل)

في البدء, ان قيمة العملة العراقية (الدينار) امام الدولار الامريكي ليست القيمة الحقيقية فهو مدعوم من قبل البنك المركزي, والدعم الحكومي هو الذي يتحكم بسعره وليست الاسواق من خلال ضخ كمية نقدية اكبر من حاجة السوق مع تحديد سعره وهذا ينتج بالضرورة زيادة الاستيراد بشكل اكبر من حاجة الفعلية للأسواق مما يعني زيادة العجز في ميزان المدفوعات (زيادة المديونية) ,واذا ما اراد العراق ان يواجه هذا العجز مع بقاء سعر الدولار مدعوماً عليه ان يزيد من صادراته للخارج , وبما ان العراق لا يملك منشآت اقتصادية انتاجية قادرة على تصدير منتجاتها الى الخارج لتوقف هذه المنشآت بسبب انهيارها استمر العجز في ميزان المدفوعات بل وزداد اكثر. والقروض التي يقدمها صندوق النقد الدولي هدفها الحد من العجز في ميزان المدفوعات و هذه مهمة الحكومة العراقية و اذا لم تستطيع تحقيق ذلك فهذا يعني ان القروض التي يمنحها الصندوق لها اثر سلبي على اقتصاد العراق بزيادة المديونية الخارجية و تعميق العجز في ميزان المدفوعات ويجعله غير ذي اهلية لتقديم المساعدة العالمية (الخارج) له.

لكن, خيار (تحرير سعر الدولار) حسب طلب (الخارج) من الدعم الحكومي ليس خياراً سهلاً بل هو بمثابة اعلان حرب اهلية صامتة في (الداخل) على الفرد العراقي في قوته و احتياجاته الاساسية خاصة و ان العراق للتو خرج من مظاهرات عارمة تطالب بفرص عمل من الدولة و تحسين الوضع الاقتصادي و الخدمي للمواطن وتوفير الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة و توفير الغذاء عبر برنامج البطاقة التموينية و المحافظة على اسعار عادلة في الاسواق المحلية تتناسب و دخل المواطن و هذا يعني زيادة الانفاق الحكومي في (الداخل) بخلاف طلب (الخارج) المتمثل بصندوق النقد الدولي بتخفيض الدعم الحكومي و تحرير سعر الصرف للعملة الاجنبية و ترك تحديد مقداره للسوق . لذا بقى العراق مشتتاً في سياسته الاقتصادية بين طلب (الخارج) في رفع الدعم الحكومي عن سعر الدولار ومتطلبات (الداخل) في الابقاء على الدعم الحكومي له تجنباً لزيادة الاسعار في الاسواق بشكل يخلخل التماسك الاجتماعي , فـطلب(الخارج) له بعد اجتماعي سلبي على (الداخل) فغياب قاعدة تصديرية للعراق بشكل متزامن مع تخفيض العملة الوطنية يجعله يستورد احتياجاته بأسعار عالية يخنق القدرة التنافسية للصناعات العراقية الوليدة و يهز مستويات المعيشة للمواطن العراقي.

ثالثاً: التوازن بين ثنائية (الخارج) و(الداخل) في قضية تحرير سعر الدولار

في ظل التناقض بين هذه الثنائية و بهدف اقامة التوازن لهذه المعادلة الصعبة علينا ان نقرر مبدأ نحتكم اليه هو “ان الدعم الحكومي لا مفر منه” و لكن هذا الدعم ليس مطلقاً و انما هو “دعم اجتماعي موجه” و “مخطط” و لا يمكن للحكومة العراقية ان تحرر سعر الدولار دون الدعم الاجتماعي الموجه. لان تحرير سعر الدولار يعني زيادة الاسعار و زيادة الاسعار يعني تضرر طبقات اجتماعية محددة هي “الطبقة الوسطى” و “الطبقة الفقيرة” , اذ قد تختفي الطبقة الوسطى من التكوينة الاجتماعية و تلتحق بالطبقة الفقيرة لتتوسع الاخيرة بشكل كبير. على الحكومة العراقية ان تمتلك قاعدة بينات دقيقة عن هذه الطبقتين , من هم ؟ واين يتواجدون في المجتمع العراقي؟ و كم عددهم؟ ثم توجه الدعم لهم شخصياً دون غيرهم و تراقب وصول الدعم الاجتماعي لهم , وطبيعة الدعم الاجتماعي لهذه الطبقات يتمثل برفع اجور هذه الطبقتين بالمقدار الذي فقدته بسبب زيادة الاسعار و لا يجب ان يكون رفع الاجور صورياً بشكل لا يحقق التوازن المعيشي و غير مراقب بشكل صارم و منتظم بل يجب ان يكون حقيقياً . اضافة الى توفير فرص عمل لهم في القطاع الخاص و تنظيم البطاقة التموينية باسعار مدعومة لهم , و لكن التحدي الذي يعرقل تحقيق ذلك كله هو عدم امتلاك العراق مؤسسات دولة منتظمة وصارمة , بسبب الفساد. الفساد هو السبب المباشر في عدم اقامة التوازن بين طلب (الخارج) المتمثل بطلب صندوق النقد الدولي بتحرير سعر الصرف للدولار ومتطلبات (الداخل) في الدعم الاجتماعي للطبقات المتضررة من هذا الاجراء , فالفساد هو وراء هذا التناقض بين (الخارج) و (الداخل).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

السوداني يؤكد التزام العراق بخطط أوبك

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram