اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كُرّاساتي الباريسية : باريس : المنفى داخل المنفى

كُرّاساتي الباريسية : باريس : المنفى داخل المنفى

نشر في: 11 يناير, 2023: 12:10 ص

لطفية الدليمي

القسم الثاني

فطور في مقهى الدوماغو

قبل انتهاء مؤتمر حرية التعبير والتنمية الاعلامية ومغادرتي لفندق كونكورد لافاييت زارني ابني ( أيّار ) وزوجته السويسرية ( اورسولا ) وطفلتهما الصغيرة ريا ذات الاعوام الثلاثة ،

حجزوا غرفة في فندق قريب عند وصولهم قادمين من العاصمة السويسرية بيرن حيث يقيم ابني ويعمل في مؤسسة ( سويس إنفو) الاعلامية منذ سنوات ، عرض عليّ إبني وزوجته أن أصحبهما الى منزلهما في العاصمة بيرن ( أعلم مدى صعوبة تقديم طلب لجوء في سويسرا ) ، شكرتهما وأخبرتهما بأنني لاأستطيع دخول سويسرا لأنني دخلت فرنسا بتأشيرة جماعية مع الوفد العراقي للمؤتمر ولايمكنني في هذه الحالة دخول أي بلد أوروبي وطلب اللجوء الا عن طريق الخداع واختلاق قصص مفبركة ، لم أكن قد حسمت أمري بعد ما حصل في المؤتمر : هل سأبقى حقاً أم أختار العودة لبغداد أو عمان ؟

قصدنا مطعماً عربياً فاخراً في الشانزليزيه نسيت اسمه ، وبعدها تجولنا بسيارته في حي ماريه اليهودي السياحي وبعض شوارع الشانزليزيه . سألني أيّار :

- مارأيك أن أدعوك غداً لفطور سيكون مفاجأة لاتتوقعينها ؟ سنفطر في مقهى قرأتِ عنه كثيراً في كتب أدباء تحبينهم ، إما في مقهى الدوماغو أو الفلور في حي سان جيرمان دي بريه ..

لم يخطر لي أمر مترف كهذا وأنا في وضعي اليائس وحيرتي المظلمة . ابتسمت : مفاجأة رائعة برغم المرارة التي تجتاحني كالحمى .

إتصلَ تلفونياً بالمقهيين الشهيرين الفلور والدوماغو وحصلنا على طاولة في الدوماغو الساعة العاشرة صباحاً ؛ فليس بوسعنا الحصول على فطورنا دون حجز مسّبق ، قال لي :

- دعوتك للفطور هناك لإحياء ذكريات قراءاتك في كتب أقطاب الوجودية الذين تحتشد مكتبتنا بكتبهم . أذكر أنك كنت ترددين أمامنا وكنا أنا وأختي ندرس في «مدرسة الموسيقى والباليه « مقولة سارتر العظيمة ( قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأن أحيا في الموسيقى )

ضحكت وقلت :

- ولهذا صرت أميل للصمت والسماع وأتجنب الكلام ، حتى أنني كرهت التدريس وانتقلت من العمل في ( مدرسة الموسيقى والباليه ) إلى دائرة الشؤون الثقافية في دار الجاحظ التي تصدر عدداً من المجلات الثقافية في وزارة الاعلام لأضمن تمسكي بالصمت ، كنت قد تأثرت حينها بمقولة لسارتر مفادها : ( إن كل كلمة لها تبعاتها وكذلك كل صمت ) ومن هنا ترسخت فكرة الصمت في حياتي حتى يومنا هذا ، واكتفيتُ بالاصغاء للموسيقى وحوارات الاصدقاء .

صور سيمون دوبوفوار و جان بول سارتر وهمنغواي وألبير كامو وريمون آرون والكتاب الشباب حينها وصور بابلو بيكاسو وجيمس جويس وجيمس بالدوين وتشستر هايمز وريتشارد رايت وغيرهم تحتل جدران المقهى وتنظر الينا من وراء بخار القهوة والشاي وروائح الكرواسان الشهية وعطور السيدات وزهور القرنفل الموزعة على الموائد الصغيرة ، كانت صورهم المخفية وراء الاطر والزجاج تبدو نائية جداً عن زمننا وكأنهم مجرد أشباح عتيقة مرت في الزمن وتوارت في الغروب المحتوم وماعاد لهم تأثيرهم في حياتنا الراهنة .

أطلق على المقهى حين تأسيسه اسم ( Les Deux Magots)

لو دو ماغو عندما وضع فيه صاحبه تمثالين لحكيمين صينيين .

لم أكن في وضع نفسي يتيح لي التمتع بأي شيء ، أفطرنا كرواسان فرنسياً وعصير برتقال وبعض الزبدة والمربى وشرائح من الخبز التقليدي وبعض الاوراق الخضراء تزين الأطباق .

ستحسم الايام القادمة قراري المصيري ، وقد يكون فيه خلاص معقول أو مزيد من المخاطر والمتاعب التي تترصدني في كل مكان .

غادرني أيار واورسولا مساء ذلك اليوم متجهين الى العاصمة السويسرية بيرن على أمل أن أزورهم بعد أن أحصل على وثائق تيسر لي التنقل في دول الاتحاد الاوروبي وسويسرا .

سأكون مرة أخرى وطن نفسي ، وستكون وحدتي وغربتي حجرات هذا الوطن المفترض المحروس بالتوجس وعدم التيقن من أي شيء . الشك هو ملاذ التائهين بلا يقين أو إيمان بالايديولوجيات والحتميات .

فندق عدن 110 شارع بلوميه

أغادر في نهار بارد مثلج محتمية بمعطف وشال صوفي فندق «كونكورد لافاييت» الذي اكتشفت باريس الضوئية من أعالي طابقه السّادس والثلاثين . أغادره بعد انتهاء المؤتمر الدوليّ لحرّية التعبير والتنمية الإعلامية الذي دعتنا لحضوره “منظمة اليونسكو” لأقصد فندقاً متواضعاً في الدائرة الخامسة عشرة إسمه - ويا للمفارقة - (فندق عدن) : كان بداية رحلتي في مواجهة العدم ، وهو الفندق الذي اقترحه عليّ قريب زوجي الراحل الدكتور قيس العزاوي ممثل العراق في الجامعة العربية الذي كان أحد المشاركين في المؤتمر . اقترحه لسببين :

الأول أن مالك الفندق رجل لبناني من معارفه ويسهل التعامل معه بعيداً عن حاجز اللغة ، والسبب الثاني وجود صديق لكلينا يعمل في استقبال الفندق هو السينمائي الدكتور جواد بشارة .

حدثني الدكتور قيس عن إمكانية لجوء أفضل في السويد ، وأن إبن أخيه سيغادر خلال أيام إلى هناك وبوسعي التقديم للجوء وثمة تسهيلات لن تجديها في فرنسا ، قلت له لاأستطيع العيش في بلاد مثلجة ، قال :

- ستعتادين الأمر ، السويد تقبل اللاجئين بشروط تختلف عن فرنسا ، وقد ساعدتُ بعض أقاربنا وحصلوا على اللجوء والاقامة ووفروا لهم السكن بفترة قصيرة .

قلت له : لاأعرف أحداً في تلك البلاد ، في الأقل لدي بعض الصديقات هنا في باريس وسأقدم على اللجوء هنا فلا طاقة لي على خوض مجازفات جديدة .

- حالما تستقرين وتحسمين أمرك اتصلي بي ، سأصحبك إلى منظمة (مراسلون بلا حدود ) فرئيسها مسيو مينار صديق شخصي لي ، وأنا أعمل في هيئة حماية الصحفيين العالمية ، وسأتحدث مع مسيو مينار عن موضوعك وهو الذي ساند كثيرين من العرب وغيرهم .

شكرت الدكتور قيس على مساعدته النبيلة ومقترحاته المخلصة .

في الفندق الصغير الواقع في زقاق «بلوميه « وجدتني لأول مرة في حياتي أواجه الحياة والغربة وحدي وأنا أضع خطواتي الأولى في فندق متواضع بأربع طوابق أرتقي سلالمه المفروشة بسجاد أحمر متهالك إلى الطابق الثالث وعليّ أن أتدبر أمر الإنتظار الغامض لمصيري فيه وأفكر بكيفية تعاملي مع وضعي المخيف في المتاهة الكبرى : باريس .

فندق (عدن) - الذي لاعلاقة له بعدن الأساطير التوراتية ولاحدائق عدن عند التقاء دجلة والفرات - كان أوّل نقطة ارتكاز قلقة أقف عندها ، كنت أترنح فيها ليلي والنهار ، من غرفة تطل على شارع ( بلوميه ) الضيق ، ثمة ليل مديد من الوحشة والحيرة وقد بدأت التعامل الحذر مع متاهة المدينة الكوزمو بوليتانية المغوية ، المدينة التي يحلم بها الآخرون ولكنها لم تشكل لي يوماً مادة حلم أو رؤيا .

لطالما كنت أحلم ببلاد آسيوية : اليابان ، ماليزيا ، كشمير ، النيبال ؛ لكني لم أوجه دفة أحلامي غرباً ، تأبدت بوصلة جهاتي عند الشرق ، روحي كانت تطوف المعابد وتتوقف لدى الباغودات الذهبية وتماثيل بوذا ، مثلما كانت تتسلل إلى المساجد التاريخية في سمرقند وطشقند واندونيسيا ، كنت أحلم بمدينة كاموكارا حيث انتحر كاتبي المفضل ياسوناري كاواباتا الذي تعلمت منه الكثير عن خواء الشهرة ورفضه التحول الى موضوع استهلاكي معلن في السوق ، وهو الذي عاش معضلة الشخصية اليابانية في ازدواجها بين النسك والحسية من جهة ، وبين الصراع بين الروح اليابانية القومية والاحتلال الامريكي ؛ فبعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ظهرت اتجاهات متناقضة لدى النخب الثقافية ، منها مايتنكر على نحو عصابي لكل ماهو ياباني وقومي إثر زلزلة الحرب والهزيمة وشيوع حالة من الخواء الروحي مع النزعة العدمية التي أعقبت القيامة النووية في هيروشيما وناغازاكي ، ومنها مايعلن رفضاً قاطعاً للاحتلال تؤججه الروح القومية التي تمسكت بالانغلاق بعد الإفاقة من صدمة الهزيمة ، والاتجاه الآخر قبول واستسلام للاحتلال الامريكي وقبول غير مشروط للثقافة الغربية .

هناك كنت أتابع خطوات كاواباتا وأعايش وقائع قصصه القصار وهو يؤسس شخوصها وأحداثها في مدينة كاموكارا ، قصص تروي تناقضات حياة البشر واختراعهم لخرافات وأساطير رمزية تموه وقائع مشينة لانعكاسات الحرب على الحياة ، على آمال الشباب وعلاقات الارامل والمواليد مجهولي الآباء ، والفتيات اللائي التهمت الحرب عشاقهن .

تعلمت من كاواباتا حين ترجمت روايته ( بلد الثلوج ) فن العيش في العزلة وفن مواجهة الحرب بالعمل ، وسلوك الانغمار في الكتابة والانتشاء بانجاز قصة أو رواية أو نص ، كانت هذه متعتي العظمى في أزمنة الحرب والموت والفناء الجائح ، اعتدت وحدتي وعزلتي ؛ لكني لم أتعلم منه كياباني فن الموت ساعة يشاء المرء فتلك خصيصة يابانية يورثها الأسلاف للأحفاد ، وأمامنا نحن المشردون فرص لاتحصى للموت المتاح لكننا تجاهلناها تشبثاً بحياة عسيرة .

هنا حياة أخرى مضطربة ديناميكية تنطوي على موت مخبوء في ثناياها ، حياة مدينة عظمى لاتعبأ بك ؛ فأنت لست أكثر من هباءة غبار تائهة ، تلك حياة باريس الشبيهة بالكاروسيل - دوامة الخيول الدوارة في السيرك - أو كدولاب الهواء : تدوّخك وتدور بك ثمّ تباغتك بالنهاية الوشيكة لتهبط إلى الأرض، مترنحاً وحيداً وفي ثيابك بقايا رعشة وفي قلبك بقايا غبطة طفولية تمازجها المرارة والرهبة والرفض الموجع ، ليس هذا ماأنشده خاتمة لحياتي ، رهبة لم أختبرها في أية مدينة أوروبية قبلها ، رهبة تصرخ بك : أنت في باريس ، ولكنها ليست لك ، انت عابر طارئ ، ولن تهب نفسها لك لأنها لهم وحدهم : أهلها .

باريس حياة جذلة لعشاقها وحدهم ، عابرٌ سحرها ، مؤقّت كشمس الشتاء ، سحرها متغيّر، مخادع ، سحرها مجون البشر في الأمكنة ، جنون البشر في اللازمان، جموح الأهواء والمتع المجتناة كل لحظة ، و كأنّ قيام الساعة آت بعد بضعة أنفاس من هواء الشتاء المتجلد ، مدينة لفرط اشتغالها بالخيال والمتع تبدو أشدّ واقعية من الحلم بها ، وأشد تهديداً للأرواح المستوحشة .

لبثت أتساءل كل مساء وصباح : لماذا أجدني في اختبارات عسيرة كل حين ؟؟ لماذا ؟؟ إذن فلأكن جديرة بتحدّي واقعية هذه المدينة وعدميتها وجموحها .

هل سأنجح ؟ لست واثقة من الأمر .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram