اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عـمـر السـراي: ابـن للـشـعـر

عـمـر السـراي: ابـن للـشـعـر

نشر في: 14 يناير, 2023: 09:55 م

ناجح المعموري

هذه فاتحة النص وهو اهداء فيه قسوة وقوة، ومثل هذا الاستهلال يثير ارتباكاً لدى المتلقي ويمارس ضغطاً على نوعية الفحص والتلقي.

وحتماً سيكون في القراءة تشوشاً وتضبباً، وكل ما سيحصل سيكون ارباك على القراءة، ومثل هذا يؤدي لكشوط ماسحة، وخادشة، تربك مستوى التلقي، لان مثل هذه العلاقة تؤسس نوعاً من التصادم بين النص والكلام، وعلاقة الاخير مع المصدر الجسدي للغة ومثلما قالت عالمة النفس «شانتال شواف « بقدر ما تعجز لغة الكلام عن ان تحل محله اللغة النكوصية التي لم تدخل بعد مرحلة التعبير، والتي هي ظاهرة اقرب الى الانفعال الاولى منها الى اللغة... وفق هذه الدرجة من التعمق، علينا ان نرجع الى عناصر، ليست كلمات ولا جملاً وليست حتى مقاطع، الا انها تحمل معنى، بينما تظهر اللغة الدارجة، كتحميل اضافي يخفي المعنى / الفصام بين الجسد والفكر / بدايات، ت: ناهدة ريان / وقاسم الشواف / 2008/ ص7//

قول الكلام، ترديد للشعر والتغني به، يمنح الكائن تعالياً ويؤهله للتواجد في الكينونة كما قال هايدجر. الكلام يعطي الانسان تشريفاً لأنه يكتب، يدوّن، يرسم، يلوح بالرموز البدئية، كل هذه الوسائل ذات العلاقة مع الشعر توفر فرصة للكائن ان يتحول سيداً للحياة. لأنه امتلك قدرة العقل المانح له الحرية، ومعطيه الوعي وهذه الثنائية هي مقولة هيغل بوقت مبكر، لانه تحقق الكتابة للأفراد، الجماعات، الشعوب، يعني توفر الوعي المؤهل لاختراعها، وهذا يعطي الكائن الحرية. من هنا تكون الكتابة في داخل الحياة والانسان هو الذي يقود ما يحتاجه الانسان من كتابة او مدونة. وما اكده هيغل يعني ضرورة استمرار الكتابة في داخل الحياة ويعطي الحياة حضوراً خارج الكلمات، من اجل اختبار التداول والتواصل.

فاتحة النص مفقود الالفة والشفافية، وطغى عليه الصراخ مع القسوة الحاضرة فوقه والضاغطة عليه. لان غياب الجسد الانثوي مطروداً، وراضياً بغياب الرفرفات، التي يلوح بها الجسد لمن يستحق الاستماع للصوت، واستعادة الكلمات التي كانت متداولة حتى تحولت ذاكرة. قاومت كل ما هو ضاغط، وساعي لمسح ومحو ما تعتز به الارادة القوية للكائن. ولان شهرزاد هي الحضور الاقوى، قادرة على مقاومة المحو والازاحة، واعلان مقاومة الاخضاع، والسماح للكلام الشفاف، المانح للإنسان طاقة التملك لكل ما هو يساعد لرفرفة الشفافية، التي تطفو سابحة على جسد الانثى. الانثى صامته، لكنها تحوز معجم الكلام الذي عرفته منذ البدئية. بمعنى فازت بالالتقاط معنى المعاني، التي عرفتها شهرزاد وتباهى الفحل بقوة الاخضاع، لكنه لم يحرز على ما هو اعظم في الحياة من جماليات.

شهرزاد باقية متباهية بطاقة الحكي، مستعينة به لإزاحة الفحولة وتعطيل هيمنتها، لذا حاز عمر السراي لساناً عن الخطاب البدئي، وحتماً سيكون خاسراً في صباح ما ويشعر بالندامة ويبذل جهداً لاستعادة الحضور. وامتلاك الكلام الذي وحده قادراً على تخلصنا من ظلمة الليل واستعادة صباح الحياة وجماليات شهرزاد. حتى في صمتها « في انجيل يوحنا وفي اسطورة البدء نحن لا نجد المرأة، بل نجد الكلمة وحدها... الكلمة التي سبقت الجسد، بينما سبق الجسد الكلمة في سفر التكوين التوراتي، على اعتبار ان الجسد واحد قبل ان يتحقق وعي وجوده. وفي الانجيل نرى الجسد يفقد وظيفته الرمزية. اذ لم يبق في الواقع الجسدي البدئي غير الرمز، اي الكلمة المفصولة عن مصدرها الحي، وعن جسد حواء وعن عقل حواء المتوجه لآدم. لم يبق انسانا غير كلمة لا جسد لها. فالمسيحية تعلم كما يلي:

والكلمة كان عيد الله

وكان الكلمة الله / انجيل يوحنا / الاصحاح الاول /

دخل الرجل ظلمة الليل، وتحايل عليها بخطاب شهريار التجميلي. لكن ما هو اكثر ظلمة هو الحضور المعلن عنه عبر الصمت والكلام. فهل هنا استعاد الرجل ما قاله يوحنا عن المرأة الغائبة والحاضرة. ليست منشطرة، بل هي هكذا قبس الديانة المسيحية اكثر تغيباً. وتم الاستعاضة عنها بالكلمة. هذه المفردة السهلة واليسيرة، لكنها ذات تردد قوي، استعان بها يوحنا، وهكذا تستمر طاقتها التي تردد في البدئية السومرية وامتدت للديانة اليهودية ومن بعد المسيحية.

الكلمة وحدها ذات حضور ضاغط على جسد الانثى وهذا عرفه الشاعر وذهبت اليها وتعرف عليها جيداً الكلمة / الانثى. ولذا اقترنت بدئيتها بالتكوين والخلق، ولهذه البدئية دلالة التشارك بين الصوت. المتردد والمتوتر بإيقاع الصوت مع لحظة التكوين الذي يمثل امتداداً قوياً ومتماثلاً مع التكوين اليهودي. المثير بالكلمة التي قالها يوحنا هو يعني التخلي عن الانثى وانحيازه ليسوع والتعلق به طويلاً، ويضيء قول يوحنا رواسب الخطئية واستمرار ما تثيره من جدل ومخاوف، زاولت ضغطاً مع قسوة على الانثى وجسدها البكري، الذي كان وسيظل البدئي ومن بعده الكلمة وهذا ما دفع هايدجر المفكر الى التعامل مع الكلمة بما انطوت عليه في التكوين والخلق وظلت تابعة للكائن الذي عرفه الوجود قبل ان يتعرف ايقاع الكلمة. من هنا جعل هايدجر من الكلمة هو الوعي والحرية موظفاً ما قاله هيغل. عودة لحضور الكلمة في كلام يوحنا يتجاور هذا العقل المثالي مرغوباً به من قبل يوحنا، الذي اعطى الكلمة شحنة من القيم والافكار المقترنة مع الحياة التي لوح بها سفر التكوين المسيحي والتكوينات الما قبل، لكن الجسد هو اللحظة الرغبوية التي منحت المرأة وعياً ومعرفة، وزادت عليهما حريتها التي فوضتها ان تكون في اللحظة البكرية صفة الام الكبرى. لكن الفحولة انتصرت عليها ومارست تأثيرها الثقافي عليها. لكن المرأة لم تسقط كلياً، بل حافظت مع وجودها الرمزي الكبير، الذي لم يتمكن الخطاب البطرياركي مع اخراس رمزياتها عن الكلام.

لم يكن ما قاله الشاعر عمر السراي عادياً، بل هو كلام شفاف ومعقد في آن، لانه ضم انظمة استدلال هي التي قادني بعضها للكتابة على هذا النص الاستهلالي. وكنت قد كتبت مقالاً طويلاً وظل هذا النص حياً « بحضور قوي في ذاكرتي واستمرت منذ زمن بتدوين ملاحظاتي عنه وتفجرت في وقت صعب ومتعب علي وصارت الكتابة نوعاً من العلاج الثقافي والنفسي. انا لم اقرأ هذا النص اعتماداً على ما يكشف عنه من ايحاءات، بل فجرت الكلمة وما تعنيه في اسفار التكوين الحضارية وما قاله هايدجر عن هولدرن وتراكل وما كرره « جورج غادامير، عن الشاعر الالماني « باول تسيلان « اكتظ هذا النص المنتج بالمعنى، مثلما ظل محتفظاً بما هو مختف.

كل ما قالته الفلسفة عن الكلام، تفجر بما هو مختزن به في اسفار التكوين التي التقطها الشعر ايضا. ولا يمكننا التعامل مع الكلام بعيداً عن الشعر، وكلام هو الذي يرتضي بالتراكم، او الاختزال لكنه في الحالتين يتدفق مثل الينبوع « وقال الشاعر فلارميه بزمن مبكر: لا يخلق المرءُ الشعر بالأفكار، بل بالكلمات. ان ما قاله عمر السراي تعبير عن حق مقدس لا يمكن اغتصابه. لأن للشاعر حق الكلام وترديد ايقاع الصوت واتذكر قولاً للشاعر فاليري « للشاعر حق على اللغة «.

ان لغة الكلام الاعتيادية وسيلة عملية. انها تحل باستمرار مشكلات فورية. وتحقق مهمتها عندما يلغي المعنى كل جملة منها تماماً ويبطلها، ويحل محلها. والفهم غايتها. اما الاستعمال الشعري، من جهة اخرى. فتهيمن عليه الشروط الشخصية، والشعور الموسيقي الواعي والمستمر والمستدام كما قال جورج غادامير.

الشاعر عمر السراي ابن للشعر وأمين على ما تعرف عليه موروثاً له، وادرك انظمة الحوار، ونجح في ابتكار الشعر وذهب سريعاً وبعيداً نحو شعر، تسيدّ فيه الكلام الذي جعل من الحياة حياة يرتادها الشعر ولا يفارقها، لان الاقتدار يرى بالغروب شروقاً مستدعياً لما هو غير مأهول. ومثال ذلك جسد الانثى والكلام، لان الحرية تومئ لاضفاءات الانثى، فاتحة النص المنشغل انا به فنحن طاقة الولع لاستدعاء ما هو جميل، فالكلام شعر والجسد الانثوي شعر. وكلما أتذكر استقلال النص، قادتني الذاكرة الى مصرف الارادة الآدمية واكتشف نوع العلاقة يالشعر، مثلما ادخل مكان الغياب الذي استدعيه في مساءات النهار التي عاشها الشاعر عمر السراي، وعبر عنها بالذي قاله اهداءاً في لحظة متوترة، فيها ارتباك خلقة الشعر وزوده بطاقة استنطاق الكلام ويقوده طبعاً، راضياً بصداقة مع ما هو صعب لا يلوذ الا بمن يستحقه، لأن صياد لكلام الاناشيد، ورائحة التراب، غير المفارقة لجسد الانثى التي منحتنا كل ما هو مقدس لدى الكائن المتخندق، وسط كينونة الحب والعشق واللذائذ المتوهجة للشاعر، وهو يقول ما لا يقوى عليه الا المحب.

اهداء عمر فاتحة مرتعدة بصمتها ومنفتحة على كل الرياح والنسائم، انه الكلام النابت فوق التراب والمختفي وسط الطين وكأنه عشب غسله بلل المطر.

أخيراً عمر السراي شاعر الاسرار، وهي الوحيدة الخاتلة بالكلام الذي يجعل الحياة جميلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram