طالب عبد العزيز
الجيل العراقي الجديد(جيل تشرين العظيم) جيل متمردٌ، عنيفٌ، جيلٌ مستفَزٌّ في وجوده، وانفعاليٌّ تعلوه القسوة أحيانا، كيف لا وقد استقى مادته من الحراك الشعبي الكبير، ومن الرصاص الحي وبنادق القنص والدخانيات والمطاردة في الازقة.. وتمكن من فرض إرادة التغيير على الجميع، وإن لم يكن كما شاء وتطلع، جيل خلاق قوي سيقود البلاد اليوم أو بعد سنة لا محالة الى ما يجب أن تكون عليه..
لكنَّ حاجته الى التنظيم والقيادة المؤمنة تبقى قائمة وضرورية كي لا يسهل إنقِياده، أو توجيهه خارج خطه العام أو بأكثر من إتجاه وغاية، وأمر مؤسف أن نجده فريسة القوى والحركات الاجتماعية والدينية المتطرفة، التي ما زالت تراهن على عواطفه، وتجره الى مرادها، فكان بنا ما كان، جراء دخوله في مشاريعها تلك، كيف لا؟ وقد أفلحت بتعطيل آلة العقل فيه، عبر شعارات طائفية وعشائرية، لها القدرة الفائقة على ملامسة وجدانه، تخللتها وعودٌ بحياة أخروية، طافحة بالرغد والنساء والجنان، ومفازات الحلم التي لا يعيش فيها أحدٌ خارج أبناء طائفته ومذهبه، فصدَّقها وتصوّرها نعمةً في ميزان حسناته، وثمرة ناضجةً لتضحياته، وهكذا، تعطلت فيه ماكنة الإنتاج المرجوّة، ونفت من وجدانه أهمية حياته بوجود الآخر المشترِك معه انسانياً.
وحتى وقت قريب كان جيلٌ عريضٌ من الشباب قد استسلم الى آفة الإغواء القاتلة تلك، حين إعتقد بأنَّ النظام الثيوقراطي ضامن لضالته الموعودة في الحياة والآخرة، مع أنه وعلى الرغم من مضي عشرين سنة على التغيير لم يعثر على ضالته في النظام الجديد، الذي ضحى آباؤه وأشقاؤه من أجله. هناك جهات منظَّمة بشكل دقيق ظلَّ واقعاً تحت تأثير خطابها، لأنها إجتهدت في هدم كل سؤال عنده، حتى بات لا يصدّق بأنَّ كل ما تعرَّض له في حياته، من فقر وجوع وحرمان هو نتاج النظام هذا. وربما كان قد أغمض عينيه عن الحقيقة المرة تلك، أو هو رفض أيَّ مكاشفةٍ، قد تطلعه على بواطن إذلاله. هناك جملة طقوسٌ سوّقت اليه بوصفها خلاصة ما يجب أن يكون عليه، جعلته يعتقد بأنَّ كل ما في الدنيا من مال ومتع زائفٌ، ولا معنى له. الكارثة أنَّ وجوده في المنطقة (الآمنة) هذه أورثه بَلادةً في التفكير، ومارست عليه ارتكاساً لا غور له، حين اعتقدَ بأنَّ حياته(مُنتَجٌ حقيقيٌّ) إنحدر الى القرار هذا يوم بات خارج منطق العقل والسؤال، مؤمناً بما بين يديه، ومكتفياً بالدموع والانتظار.
قد لا يمنحنا مؤشر البحث القريب صورة واضحة عن الشباب العراقي للأسباب تلك، وربما تعسَّرَ علينا استخلاص صورة أوضح للإخفاق الذي نعاني منه جميعاً، ومن الاجحاف أيضاً أنْ تكون العاطفة السلبية التي أشرناها نهايةَ القول عنه، إذ لا يمكننا إغفال التحولات الفكرية التي انتجت التشرينين، على سبيل المثال، مع أنَّ بعضهم لم يخرج عن سلطة العاطفة تلك- مع يقيننا بأنها كثيراً ما تتراجع عنده- فتتحول الى انعطافات مدمرة، وخارج نقطة توازنها تماماً، وقد لا تقف عند نقطة بعينها، فترتد سلبية على الانسان نفسه، فتدمر ذاته بالنظر لما عرف عن الشخصية العراقية من تحولات وانتقالات بين جهتي اليسار واليمين.. لذا، وهو رأي شخصي جداً، فأنا أعوّل على الانعطافات هذه، وأجعل منها قانوناً عراقياً خارج التشريع كله، ذلك لأنَّ بعضها يؤدي مادته في التغيير كما نريد ونتطلع، ولدينا أكثر من شاهد على ذلك.
يتوجب علينا الإعتراف بأنْ ليس كل الشباب الذين تجمعوا في ساحة التحرير ببغداد أو ساحات التظاهرات في المدن العراقية الاخرى كانوا من أبناء التيار الصدري وحده- على سعة رقعته- فقد انجذب الشباب العراقي، بالمختلف من انتماءاته والمتعدد في طوائفه الى هناك، وعبروا كلُّ على طريقته ومقدرته عن رفضهم للنظام الفاسد، والمحاصصة، وهدر المال، منشدين التغيير. وللحقيقة نقول بأنهم (الشباب) من داخل وخارج التيار وجدوا في مظلة الصدريين مكاناً (آمناً) للتعبير، ولو كانت السلطات الامنية ضامنةً لحياة جموع المتظاهرين لرأينا كيف تمكن الشباب هؤلاء من احداث التغيير، وقلب الطاولة على جميع الفرقاء، ومن ثم الإتيان بالوجه الحقيقي للديمقراطية. وفي جانب آخر من المشهد أيضاً، نرى أنَّ من يتقرب ملياً من حشود الشباب الماشين الى كربلاء سيقع على صورة أخرى، خارج صورة العقيدة واليقين التقليدية، وسيسمع همساً مختلفاً، ويقع على عاطفة آخرى، لا علاقة لها بالمقدس، لذا نقول بأنَّ الجيل هذا يحمل بذرة الثورة والتغيير لكنَّ ما أيسر خديعته !
منحتنا فعاليات الشباب العراقي المحتفل في دورة الالعاب الخليجية بالبصرة صورة أخرى لحضوره القوي تمثلت في (الكرم والضيافة والحب والغناء والرقص..) لكنها منحتنا صورة ثانية أكثر وضوحاً، فالشباب البصري وأقرانهم القادمون من مختلف المحافظات، ومن مختلف الهويات منحوا البلاد هوية كبيرة جديدة، هوية عابرة للطائفة، معلنة قيامة بلاد أخرى، تتشكل خارج أهواء زعماء السياسة التقليديين، ضعفت أمامها هوية البلاد الأولى، التي رأيناها في المناسبات الدينية (زيارة الاربعين) مثالاً على ذلك، أو صورة منصات التظاهر من قبل. صورة الشباب في ملعبي جذع النخلة والميناء وعلى كورنيش شط العرب تقدمت بأكثر من حلٍّ لأزمات العراق، بل وأعادت الثقة لنا بأنَّ البلاد هذه لا يمكن حكمها بالغيب والكذب والهرطقات إنما تحكم بالحب والعقل والفضاء الحر الذي يحترم الجميع ولا يقصي أحداً ويؤسس مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا.