اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كُرّاساتي الباريسية..باريس : المنفى داخل المنفى

كُرّاساتي الباريسية..باريس : المنفى داخل المنفى

نشر في: 17 يناير, 2023: 11:31 م

لطفية الدليمي

القسم الثالث

أجالسُ نفسي في مقهى

مقاهي باريس لاتشبه مقاهي فيينا ولالندن ولااسطنبول، مقاهيها الضاجة والهادئة أرصفة للحوار، وفسحة لتنفس رائحة الحبر الطازجة في صحف الصباح: اللوموند واللومانتيه والفيغارو ولبراسيون،

وللسيدات المتأنقات مجلة ماري كلير وفوغ ومجلة إيل، صباحات القهوة هاهنا لاتشبه صباحات الشاي البغدادية في بيتي وحديقتي برغم وحدتي هنا ووحدتي الأكيدة هناك، أجالس نفسي في المقهى، معظم السيدات وحيدات، المسنات منهن والشابات، كل منهن تنطوي على عالم موصد، تمازح عجوز مرحة نادل المقهى الشاب، شيوخ يحتسون النبيذ والكلمات المهموسة، أحاور ذاكرتي في المقهى، قهوة الأسبريسو وقطعة الشوكولاته الصغيرة معها توقظني على وحشة القلب في بلد أجهل لغته ويعاملني كطارئة عابرة ونكرة في درجة الصّفر.

هل سأجتاز محنة العبور إلى هذا العالم؟ أم أنني اخترت بوابة نجاة خادعة؟

استعمار العراق لسوء حظّي كان بريطانياً ولغتنا الثانية هي الإنكليزية والفرنسيون يحرسون لغتهم من طغيان اللغات الأخرى ويرفضون كل لغة أجنبية، هم مولعون بالموسيقى الصادحة للغتهم ومزهوون بلكنة باريس شبيهة تغريد العصافير في متنزه اللوكسمبورغ.

ترمقني الشرطية البدينة في دائرة الإقامة بنظرة عنصرية باردة وترفض الرد على تحيتي ولاتجيب عن استفساري حول تجديد الإقامة المؤقتة بضمان منظمة) مراسلون بلا حدود (، لالشيء إلا لأنني خاطبتها بالإنكليزية، تدير ظهرها استنكاراً.

يرى الفرنسيون وبعض المهاجرين المتعصبين لفرنسا من شمال أفريقيا أن الثقافة الفرانكوفونية هي الأعلى والأحقُّ بالتفوق على الثقافات الجرمانية والسكسونية والسلافية، وعليهم - بل من شيمهم - أن يصنفوا المهاجرين واللاجئين كلاً حسب ثقافته الاستعمارية: ثقافة انكلوسكسونية وثقافة فرانكفونية تميز البعض وتمنحهم أفضلية في العمل والسكن وسوى ذلك.

العدم واللجوء

وطأت قدماي العدم الشاسع الذي يسمّونه اصطلاحاً: اللجوء، ويسمّونه المنفى ويتعطّفون عليه قليلاً أو كثيراً فيسمّونه التغرّب، أو يضفون عليه سمة الخيار الواعي فيكون مهجراً ؛ غير أنه يبقى ذلك العدم المقرون باقتلاع موجع ومحاولة مدّ جذور واهنة في تربة صلدة.

وأنا الغريبة الهاربة من موت محتم في شوارع (حي العامرية) الذي اجتاحته فصائل تنظيم القاعدة – ها أنا أنقذف بغتة إلى عدَمٍ يخاله الآخرون حظاً مباركاً وترفاً يغبطونني عليه: أنتِ في باريس !!

(جنة عدن): فندق هو صورة مناقضة لإسمه، جنّة عدن هناك في أساطيرنا المهجورة، قرب شجرة آدم المتوهمة عند التقاء دجلة والفرات وليس في باريس.

غرفتي في الطابق الثالث بحمام صغير وسرير واسع وأريكتين مكسوتين بنسيج أصفر وخزانة ثياب صغيرة، لاوجود لثلاجة ولاتلفاز، شرفة صغيرة تطلّ على شارع بلوميه الضيق، أمامي بائع خضار وفاكهة، وثمة بار يلفظ بعد انتصاف الليل السكارى والغانيات الخلاسيات والفتيان المزينين بالسلاسل والأقراط وينثر الأغاني اللاتينية الساخنة التي تطغى عليها ضجّة الدراجات النارية ليتلاشى الفجر في دخان العنف.

ناصية الشارع يحتلها مخبز وحلويات والناصية المقابلة محل (أسماك شارع بلوميه)، شارع لوبلانك يتقاطع مع شارع بلوميه، كنت أقطع كيلومترين بنحو نصف ساعة لأصل المتنزهات المحيطة ببرج إيفل والكلية العسكرية ونهر السين، أسير أحياناً بالاتجاه المعاكس نحو شارع فوجيرار الذي يبعد نحو مائتي متر عن الفندق، قد أستقل المترو من محطة فوجيرار، أو أسير طويلاً في شارع فوجيرار وصولاً إلى ميدان كونفيسيون، ثمة حدائق ومصطبات قرب محطة مترو كونفيسيون، كنت أجلس أحياناً، أتأمل الحياة وجريانها، كل شيء يحدث بسرعة والجموع مُساقة بنوع من التنويم باتجاه مصائرها، النساء يسرعن للهبوط على سلالم محطة المترو، الشيوخ يحتلون المصاطب تحت الشمس، يقرأون اللوموند والفيغارو، الشباب يؤدون أعمالاً مختلفة: يصبغون الواجهات أو يجمعون القمامة أو يقومون بمصاحبة كلاب الاخرين للنزهة مقابل أجر، أحد الشباب المشردين يستجدي النقود لمساعدة كلبه على العيش، أعبر شارع كونفوسيون وأنعطف يميناً حتى مطعم ماكدونالد، أحتسي القهوة وأجلس هناك أتأمل من نافذة الطابق الأول حركة الحياة الغريبة في تيارها المتدفق.

أسير مراراً في شارع بلوميه باتجاه شارع كونفوسيون لألتقي بسيدة اندونيسية لطيفة تبيع ملابس من تراث بلادها مصنوعة من الخام المطرز أو من أقمشة قطنية آسيوية مشغولة بفن الباتيك الطباعي، أشتري منها قميصاً وأوشحة وأرتقي سُلّماً لأحتسي القهوة في مطعم (ماكدونالد) وأحصل على اتصال مجاني بالانترنيت لأقرأ الصحف ورسائلي وأرسل الردود. مطعم ماكدونالد تقاطعه صديقتي الكردية – التركية الماركسية (كيولي) فهي متشددة كأصولية يسارية.

غريبة في متاهة

أراني، أرى نفسي: إمرأة غريبة في المدينة الغريبة تسير كمن تلتهمه المتاهة التي لها براثن من لهب، الغريبة تتنفس ندماً وشجناً، تتّجه إلى مجهولات وتقنصها عين العاصفة، لاشيء ينجيها سوى الكلمات، فكرتها تولد بلغتها وسط بلبلة لغات وسحنات لاتينية وآسيوية، هي بين الغرباء بلا صديق أو رفيق وحشة، تلوذ بلغتها، تفكّر وتحيا وتتحرّك في ممرّات لغتها وفضاء الكلام، تعوم في نهر من مفردات لغتها، واللغة الماء تتدفّق حولها ومن أعماقها وأنفاسها، ومن ضفّة غامضة ينهمر مقطع شعريّ، ومن زاوية في الذهن تنبثق حكاية، وفي الدم تترنّح عبارات حبّ، في الرأس تموج مفردات فكر، تسمع كلمات من أبعد الجهات، عبارات من إبن حزم الأندلسي، تسمع بل تتخيل ما يوهمها بصوت ماطر يغيث وحشتها، ثم سرعان مايتلاشى مثل وهم ٍ خُلّب.

تنصت لوقع العبارة، تصغي لأصوات غامضة تنقضّ عليها من جنبات الأمكنة لاتدري من أين تجيء وإلى أين تذهب، الأصوات حمّالّة لغتها، والذاكرة ترسل إشاراتها عبر مفاصل الوقت استعاراتٍ ومخزونَ بلاغة وكناياتٍ، تحدّق مهتاجة الروح بما يدور في الشوارع الكبرى لمدينة ثملة بالحياة، تحتمي بلغتها كقميص مضادّ للضلال - ضلالها وضلال المصير وبلادها التي ضل السلام والفرح السبيل إليها. تتوقف برهة يقظة وتهبط من القطار التحت أرضي في محطة فوجيرار، تشتري مظلة رخيصة من بائع في المحطة التحت أرضية وتخرج إلى المطر وتمضي باتجاه شارع بلوميه، تمر قرب بلدية باريس 15، ثمة عروس تحمل باقة زنبق ومحتفلون متأنقون يهرعون تحت المطر المنهمر إلى داخل قاعة البلدية.

عطبُ العالم والاشياء

حاسوبي المحمول أصابه العطب، الماكنة الذكية تحتج على فرط التنقل ورجفة اليد والقلب والغرفة الموحشة، فلا تستقبل الطاقة ولا تخزنها ؛ فكيف سأكتب أيام الوحدة والتغرب؟

يقترح علي مالك الفندق الصحفيّ اللبناني جورج صليبي - الذي يصدر مجلة متخصّصة بسيارات السباق - أن أذهب إلى منطقة لاديفونس التجارية وهناك سأجد عشرات المحلات المتخصصة بالالكترونيات للحصول على محولة جديدة للجهاز.

يدلني الدكتور جواد بشارة على خريطة المترو التي تيسّر لي الوصول بأسلم طريق إلى منطقة لاديفونس.

من محطة مترو فوجيرار الخط 12 أستقلّ القطار النفقي إلى محطة الكونكورد لاستبدله بمترو رقم 1 المتجه إلى لا ديفونس.

المعطف لا يدرأ عني البرد الجارح في المدينة الغريبة ولاطاقية الصوف تنفع ولاالقفازات، البرد كائن عدواني لايعترف بالمعاطف وصدار الصوف، هو ليس برد أوروبا وسماوات الرماد وندف الثلج، إنه ذلك الجليد الذي يتشكّل في أعماق روح المرأة المستوحدة ويعري وحشتها ويؤبد صمتها، هو بردها الكاسر لابرد المدينة الممطورة وريحها الشرسة تحت القوس التذكاريّ العملاق في منطقة لاديفونس.

أدخل متاهة الأسواق الكبرى الممتدة بين الابراج التجارية والساحات والمطاعم، بعد محاولات عدة أجد محلات بيع غيارات الكومبيوترات، أشتري المحولة وأعود إلى الفندق.

العطرُ غوى، والخبز حياة، والقهوة مزاج

تنبثق المدينة من فكرة لتصير واقعاً حافلاً بمجازفات وسوء فهم بينها وبين الغريبة، ليس بين الغريبة والمدينة غير هبوب العطر وشذا الخبز ورائحة القهوة، العطر غوى، والخبز حياة، والقهوة مزاج وهي في تيه ومتاهة: لا تُغوى بعطر ولا تحيا بخبز ولا يرقّ لها مزاج.

باريس مدينةُ حاضرٍ تتحشرج فيه أنفاس الغريبة التي لا حاضر لها. المرأة غادرت بلاد التاريخ المتهاوي وحاضرها المنتهك لتقامر بغدٍ ملتبس.

ثمة مقاهٍ للصعاليك ومقاهٍ للنخب والسياح، مقاهٍ للمفكرين وحوارييهم والحوامين كالفراشات حول أضواء شهرتهم، ثمة القراء المدمنون والقراء العابرون والمتفرجون، هنا أيضاً الازمة العالمية الاقتصادية ووطأة الغلاء تثقل على الوجوه وتخطف ألق الابتسامات المكبوحة.

هنا ساعات العمل الضاغطة، البشر العابسون المسرعون بمظلاتهم وكلابهم وحقائبهم إلى محطّات المترو، هنا العشاق المتريثون في عناقهم وكأنهم يعومون فوق الزمن والحشود الساهمة المتعبة، هنا ليل الموسيقى اللاتينية والحانات الصغيرة والنساء الخلاسيات الساحرات والسوداوات البدينات والمطاعم الصينية وباعة الذرة المشوية وصيّادي السائحات الثملات.

هنا المظاهرات والمشرّدون اللائذون تحت جسور الطرق السريعة والكحوليون يفترشون أسمال الشتاء على أرصفة غادرة.

المتشددون باللحى الشعثاء والسحنات الغاضبة يتقدمون النساء المنقبات وهن يتمهلن على سلالم تصعد أو تهبط مابين الشرق والغرب، يشهرن الهوية الهشّة قطعاً من قماش أسود تقول الاختلاف المتشدّد وتعلن الخلاف في تعاطي الحياة مع أهل البلاد.

الغريبة تسير وحدها مثل مَنْ غادر الشرق قبل انبلاج الضياء، طيفُ رجلٍ تتخيله يراود وحشتها، لاملامح للرجل، لاإسم له، وبرغم ذلك تحتاط من طواف الطيف حولها، توقف رغبة التآلف المشتهى وتتقدّم في الزمن....

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram