ستار كاووش
ثلاثة أشياء كان يتميز بها فرانس، أولاً كان يهتم كثيراً بدراجته النارية رغم عمره الذي تجاوز السبعين، وكان دائم الإعتناء بها، وكإنها إيقونة حياته، أو كإنها إحدى بناته التي ستذهب الى زفافها. ثانياً، شخصيته المرحة ووجهه المبتسم وبساطة تعامله مع الجميع.
وثالثاً، عشقه الكبير للطبخ والإهتمام بكل التفاصيل التي تتعلق بصنع الطعام والمعجنات وإقامة الحفلات الصغيرة. والطبخ هو ما لفتَ إنتباهي أكثر من أي شيء آخر يتعلق بشخصيته، فهو يستطيع أن يصنع حفلة من تفاصيل تبدو بسيطة، أو يقيم عملية طبخ بسهولة صحبة الجيران. ورغم ضخامة جسمه وهيئته التي تشبه شخصيات الرسام بوتيرو، لكنه كان يتحرك برشاقة.
ذات ظهيرة طرق فرانس باب المرسم، فتحت الباب مرحباً به ودعوته للدخول، فقال لي ضاحكاً كالعادة (سنقوم بحفلة طبخ جماعي في بيتي، يشترك فيها مجموعة من رجال ونساء القرية. هل تود المساهمة معنا؟) فوافقت مباشرة وسألته عن المطلوب مني، فأجابتي (لا يحتاج الأمر سوى عشرة يورو من كل شخص. وأنا سأتكفل بشراء كل شيء يتعلق بالطعام والشراب، وبعد أن أهيء التفاصيل سنشترك كلنا في إعداد الطعام والشراب) ثم أردفَ ضاحكاً وهو يحرك سبابته بطريقة الخبير العارف (تحت إشرافي طبعاً). وهكذا أعطيته عشرة يورو، وكتب إسمي في القائمة التي معه، ثم إتفقنا على الموعد. جاء يوم السبت الذي إتفقنا عليه، وبدأنا نتقاطر واحداً بعد الآخر على بيت فرانس وزوجته مارايكا، هذه المرأة الودودة التي كانت تتمتع بجمال كلاسيكي رغم تقدم عمرها، نعم مارايكا التي كانت تُخفي خلفَ ملامحها سحراً آفلاً وفتنه ماضية. وكانت هيئتها الخارجية لا تتلائم كثيراً مع فرانس، حيث بدت دائماً وكإنها تنتمي للعوائل الإرستقراطية القديمة في مدينة لاهاي.
داخل البيت، أخذ فرانس مكانه وسطنا، وأخذ يوزع تعليماته على الجميع، فهذا يقطع اللحم، وتلك تعتني بشرائح الخبز، وذاك يهئ الأطباق، وأخرى تنشغل بتحضير السلاطة. وكانت مهمتي هي فتح بضع قنانٍي من النبيذ الأحمر والأبيض، ودلقها في الأقداح، لنبتدئ بها تلطيف المزاج. هكذا بدأت الأمور تأخذ مدياتها وكل واحد منشغل بتهيئة شيء. وقد تخلل ذلك الكثير من الأحاديث الجانبية التي كانت ترتفع عالياً مع كل رشفة نبيذ جديدة. في بيت فرانس ومارايكا، توزعت الكثير من الكراسي والطاولات التي تداخلت مع بعضها، وبعد دخولنا بدقائق بدأت تستقر على سطوح الطاولات، العديد من الأطباق والأقداح وقطع الأكل، وكذلك بعض القبعات، فيما انتشرت أشياء أخرى على طاولات الصالون الصغيرة وعلى الأرض، حتى بدا المكان وكإنه واحدة من لوحات الرسام يان ستين بكل ما تحمله من حياة ومتعة وألفة… وفوضى طبعاً.
إحتدمت الأحاديث، وأندلقت من الأفواه أخبار القرية وما حدث لهذا أو ذاك، وكيف كبر الأولاد بسرعة. ووسط كل ذلك، نظرت اليَّ امرأة من الجيران بخديها المتوردين بفعل النبيذ، وكإنها خرجت تواً من واحدة من لوحات فرانس هالس، ثم حوَّلَتْ نظرها الى بنطالي الذي بدت عليه بعض آثار الألوان وسألتني (كيف أحوال عملك؟ أما زلتَ تمضي كل وقتك وسط الأصباغ؟). وقبلَ أن أجيبها، قرَّبَ زوجها رأسه منها قائلاً بصوت يكاد لا يُسمع (أية أصباغ أيتها الفلاحة؟! إسمه الرسم، لأنه فنان) وهنا علا ضحك الجميع ومضينا نملأ الأطباق من جديد.
مرت بضع ساعات وسط الأكل والشرب، حتى توقفَ فرانس مخاطباً الجميع ( والآن حان وقت تحضير الكعك والفطائر) وأشار الى إناء كبير، مليء بالعجين السائل، كان قد أخرجه قبل قليل من الثلاجة، وقال (من سيبدأ؟) وهنا انبريتُ للقيام بهذه المهمة التي لم أقم بها طوال حياتي. وفيما هم منشغلون بإحاديثهم، أشعلتُ النار وسكبتُ جزء صغير من العجين في المقلاة المليئة بالزيت، وبعد قليل أمسكتُ مقبض المقلاة وحاولت أن أرمي الفطيرة التي تشبه العجة للأعلى كي أقلبها، لكنها سقطت على حافة المقلاة، فالأمر لم يكن سهلاً بعد إرتشاف أقداح النبيذ، وهكذا حاولتُ مرة أخرى بيدي الملطخة بالزيت والعجين، لكن المحاولة الثانية فشلت أكثر من الأولى. فإنتبه فرانس الى الحرب التي اندلعت في المطبخ، وقال ضاحكاً (السكارى لا يصنعون الكعك).
فتوقفتُ عن المحاولات، وسَلَّمتُ المهمة لإحدى الجارات. في نهاية المساء، عدتُ الى المرسم الذي يبعد دقيقتين مشياً عن حفلة الطبخ، ومعي نصف قنينة نبيذ، وضعتها على الطاولة، ومددتُ يدي في الصندوق البيضوي المليء بأقراص الموسيقى، والذي بدا مثل صندوق كرات البنغو، وأخرجتُ شيئاً لسماعه، وأكملت السهرة بين لوحاتي والموسيقى وما تبقى من أحاديث الجيران.