TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > دَولة الفافيلا وسَايكُولوجيا التحَشيد

دَولة الفافيلا وسَايكُولوجيا التحَشيد

نشر في: 23 يناير, 2023: 10:56 م

د.حيدر الجوراني

تَحتم المواقف أن تتعامل معها بغض النَظرعن معيارية الإتفاق و الإختلاف، فخليجي 25 في البصرة جَمَعت مختلف العراقيين على الدَعم والتَشجيع. و أن يبدي الجميع ترحيباً بضيوف البصرة. و بعد الفوز و النجاح و الإرتواء من حالة العطش المُظني إلى الفرح التي كادت حالة الفوضى الجماهيرية قبيل موعد المُباراة النهائية أن تُحبط ما كانت تَصبوا الأعين إليه.

في كل عمل ناجح و مميز توجد ملاحظات و هَفوات، و العِبرة تنطلق من خبرة الإخطاء في إظهارها و كشفها لا بالتَستر عليها. فحالة الفوضى الجماهيرية التي غَصت بها البصرة و التي أربكت الدخول إلى المَلعب أربكت الجميع. على الرغم من أن بَوادرَ حدوثها كانت واضحة منذ اليوم الأول الذي تشابكت فيه أيادي حماة المسؤولين أمام مرأى العالم و الكاميرات. ثم أعقبتها حالة الزهو والتباهي لبَعض “الفاشينيستات” اللوَاتي يُبدينَ تحدَيهُن في الدخول والجلوس عبر مقاطع فيديو مصورة تثبت أن لا نظام فوقَهن بينما كانت المناطق التي يَسكُنها البَصريون “ المناطق العشوائية” تغطى بِجدار عازل إختلس أطفال تلك البيوت النظر من تحتهِ إلى ذلك العالم بعد أن إفترشوا الأرض بعيون إمتزجت دموعها برائحة النفط.

غالباً ما يُلقي البعض باللائمةَ على هذا الشعب المَغلوب على أمره، على أنه لم يلتزم بالمشاهدة من التلفاز و أنه يرمي إلى الدخول عُنوة دونَ بِطاقات دخول. و لَربما صحيح، لكن حَجم الجُمهور والسُلوك الذي شَغل جميع القائمين على البطولة و وسائل الإعلام يَسترعي الوقوف على تحليل ذلك السلوك.

كما أن تساؤلاتٍ شَغلت الرأي العام تُمني النفسَ فيما لو أن هكذا جمهور إنتفضَ ضد إرتفاع سعر صرف الدولار؟

هكذا تساؤل قد يبدو منطقياً للوَهلة الأولى، لكنه يُفصح عن جلد ذاتٍ جَمعي مع حَتمية حدوث التظاهر لذات الغاية من ذلك الجمهور و أن تطويقاً وتسلقاً للبنك المركزي فيما لو قد حدثَ كما حدث في ملعب جذع النخلة ربما سَيُواجه بالعنف و إستخدام القوة المُفرطة عدا التخوين بحجة تخريب ممتلكات الدولة.

هنالك علاقة بين سلوك الفرد والحَيز الذي يعيش فيه (ٍSpaces)، و بلا شك فإن سايكولوجيا الفرد لها علاقة بالمكان والزمان تنعكس على شكل سلوك جَمعي في حالة الجماعة والفرد أيضا.

عودة الجمهور المُحتشد للدخول كان تعففاً لكنه أوصل الرسالة. رسالةٌ مَفادها أنهم ليسوا فافيلا (Favela) و أنهم كانوا بالإمكان أن تكونَ لهم فرصة الإندماج ضمن نظام مؤسساتي وبُنى تَحتية تقدمها الدولة لهم. كما أنَ رسالتهم كانت تَحمل عنوان مظلوميتهم و حرماناتهم المُفرِطة.

ولم يَكن حالة عَدم إستعمال العُنف المُفرط بتفريق تلك الحُشود كما لو كان سَيحصل في اي دولة تَحتضن حدثاً رياضياً كبيراً تحدث فيها حالة “ الحَشد الجماهيري” هي حالة حكمة من السلطة. لا، لإنَ الأمر كان جزءاً من عملية تَجميل قُبح النظام الذي أفتكَ بتظاهرات ذلك الجمهور من خلال سايكولوجيا الحَشد (Folk psychology) المَحروم خلف ذلكَ الجدار العَازل في البصرة.

تَنامت حالة مناطق السَكن العشوائية (Slum areas) بعد عام 2003 بشكل خطير، إذ تَكمن خطورته في أن تنامي الظاهرة تؤشر على غياب سياسات التخطيط الحَضري و فوضى إعادة بناء الدولة. ولم يشهد العراق هكذا حالة مُلفتة عدا تلك التي أعقبت ثورة 1958 حينما نَزَح الفلاحون من أبناء جنوب العراق ليستقروا في عشوائياتٍ كانت تُسمى “ خلف السدة جنوب شرقي بغداد “. بيدَ أن السلطةَ آنذاك سُرعان ما تلافت الأمر و أعدت خطة لإعادة تَوطينهم ضمن تخطيط مَدني أصبح فيما بعد يُسمى بمدينة الثورة “ الصَدر حاليا».

تُقدِر التقارير البَحثية اليوم أنَ اكثر من 5000 منطقة عشوائية في العراق بعد عام 2003 والتي تحتوي على أكثر من نصف مليون وحدة سَكنية يقطنها قرابة 3.5 مليون نَسمة تقريباً.

بينما تذهبُ بيانات البنك الدولي عام 2020 إلى أن نسبة العراقيين اللذين يسكنون في المناطق العشوائيات تقدر نسبتهم 49% من المجتمع العراقي، و هذا يعني أن عدد النسمات أكثر بكثير.

كان مفهوم الفافيلا (Favela) قد أُطلق إصطلاحاً على المناطق العشوائية للسكن في البرازيل في العاصمة ريودي جانيرو. وجاءت التسمية في أول تقرير أكاديمي أصدره المركز البرازيلي للجغرافيا و الإحصاء بالتعاون مع منظمة الامم المتحدة عام 2011. و حتى عام 2010 يقدر سكان الفافيلا في البرازيل بحوالي 11 مليون نسمة و هو ما قد لا يوازي حجم سكان العشوائيات في العراق كبلد غني بالثروات والموارد و من المؤسف أن يفوق العراق البرازيل في هذه الظاهرة.

ما يثير خطورة الظاهرة هي أنها ظاهرة إجتماعية نفسية، حيث تتميز كمجموعة ظل داخل المجتمع يَغلب عليها طابع الحرمان و العَوز وتَدني المستوى الثقافي والتعليمي والصحي، بالإضافة إلى سهولة إنتشار الأوبئة و إرتفاع مُعدل الجَريمة والإستغلال وتعاطي المُخدرات و تِجارة الجنس و عَمالة الأطفال.

إلا أن الأبرز في تمييز أفراد هذه الطبقة هو الحرمان الذي يوازيه ثراء مُعلن فاحش تُسهم فيه محتويات السوشيال ميديا بحالة هَدم عَدمي من خلال التمايز الطَبقي كالذي حصل في حالة التَباين في التَرف الذي تزامن مع بطولة كأس الخليج الأخيرة في البصرة، مما يساهم في تَضخم الِمخيال البَصري أزاء التَرف الذي يحيطه به كَمُجتمع خليجي تربطه علاقات وطيدة إلا أنه يَعيش حياة عَدمية نفسياً و إجتماعياً.

لذلك، عَكست حالة الجمهور قُبيل المبارة النهائية حالة من سايكولوجيا الحَشد. ظاهرة تعني أن ما يراه الفرد صحيحاً أو خاطئاً قد يمثل أُسطورة المُعطىMyth of given) ). أي بِمعنى ان السلوك الحَشدي يَخرج عن السياقات الإجتماعية للنموذج المعياري الأوحد (تدخل ببطاقة إلى الملعب هو الصح وبدونها خطأ). هذا الخروج عن المعيارية المَشحون بحالة الحرمان و المُحفز بحالات التَرف الفاحش العَابر للقانون والنُظم في بعض الأحيان يَخلق سلوكاً جمعياً حَشديا لا يَركُن إلى المعيارية بالمعنى المَعرفي العقلي للمسموح و غير المسموح (أي باللهجة العراقية “ هية تايهة” أو “قابل حلال عليهم .. حرام علينة ،،، ألخ) كَحالة من إنتزاع الحق المُستلب، والتعبير عن السَخط. وبالتالي ينجم إجترار سلوك عن ما يسمى بحالة الإقصاء المادي (Eliminative Materialism) كحالة من الإدعاء العام والسَطحي بخطأ في المَعايير الأحادية الجانب و الرُكون إلى حالة شُعور عام بإن ما هو صحيح أو خطأ لا وجود لهُ في مُتبنيات العقل المَعرفية، مشفوعاً بشعور ناقم و إنتفاء الإعتقاد بالعدالة الإجتماعية تجاه فكرة ما أو نظام مُعين كسياق مُلزِم للسلوك.

إن هذا التَمهيد المُكثف لتحليل حَدث ضمنَ مجموعة أحداث تَعكس بِبساطة حجم التراتبيات الهَدمية للبيئة السياسية والإجتماعية دون التفكيك والوقوف عليها بنقد صريح سيفاقم من ظاهرة التآكل مجتمعي. ولمعالجة ظاهرة السلوك الحَشدي يجب التحرك لإعادة تَوطين ما يقارب ثُلث المجتمع العراقي و إعادة تخطيط مُدنهِ حَضَرياً لتَمكين المجتمع العراقي “الساكن عشوائياً” من إعادة الإندماج ولكي لا تتحول الدلوة إلى دولة “ فافيلا” و يتحول المُجتمع إلى ( حَشرٌ مع الناسِ ...إذن فهوَ عيد).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"قوانين جديدة".. طالبان تعتبر وجه وصوت المرأة "عورة"

تشكيلة ريال مدريد المتوقعة لمباراة لاس بالماس اليوم في الليغا

اسقاط مسيرة تركية وسط كركوك

الضفة الغربية.. الاجتياح يتواصل لليوم الثاني وارتفاع حصيلة الشهداء

الصحة: لا توجد مبررات كافية لإدخال لقاح جدري القردة إلى البلاد

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram