TOP

جريدة المدى > عام > أولاد الشــــــــــــارع

أولاد الشــــــــــــارع

نشر في: 20 نوفمبر, 2012: 08:00 م

 

البارحة فقط قبل الشروع في الكتابة أدركت بساطة تفكير أبي .. على وجه الدقة، أدركت الشتيمة اللقيطة التي أطلقها أبي على كل ولد يعيش الحياة خارج أسوار بيته:

المستقبل يا ولدي في كتابك ومدرستك ثم شهادتك.. وليس في الشارع

لكني أحبه يا أبي فهو الحياة التي تتحرك..

انكب يا ولدي.. الكتاب والشارع لا يلتقيان..

من ينتصر آخر طواف الحياة الشارع أم الكتاب؟

ابن شوارع تلك التسمية التي تمنحني فرصة تأمل الشارع بالقدر الذي يتيح لي تأمل ظواهره عن قرب..آه ليتني كنت شوارعيا بختم احمر لأروي ما حدث بالطريقة التي ترضي طموح أبناء جنسي المنسيين.. لأشحذ الذاكرة البصرية والتخيلية معاً.. الشارع وحده الذي يمنح نسوغ الأرواح الهائمة على الأرصفة ويعيد توصيفها من جديد.. ترى هل وصلت إلى حافة الحلم الذي يتيح لي تأمل الشارع بعيني طفل مندهش؟ أو سكران مخمور التحف الرصيف قبالة محل بيع الخمور؟ أم إن الحياة التي أضعتها بين دفّات الكتب أفسدت عليّ متعة تأمل الشارع الذي افتقدته بفعل إصرار أبي على الابتعاد عنه؟

الشارع أرضية رحبة لمعصية الوالدين.. وأنا لم اعصهما رغم مكوثي الطويل داخل أسوار الدار اقلب كتب المدرسة .. لقد حصلت على نجاح باهر في مناهج المدارس ونلت شهادة كبرى بين كل أبناء العائلة بكل تفرعاتها .. لكني بالمقابل  فشلت في معرفة الشوارع والمدن ولياليهما.. ليتني لم أصغِ الى أبي في حديثه المكرر عن المستقبل النيّر.. أين المستقبل يا أبتي؟ أكملت دراستي وكنت حسن السيرة والسلوك وفق وثيقة التخرج.. كذلك إن صحيفتي بيضاء ناصعة البياض، وبصمة أصابعي نظيفة في عدم محكوميتي من جناية مخلة بالشرف..

يطلق عليّ أبناء الشارع بالمثقف الأستاذ /الحاج / صاحب قلم حاد/ الأفندي/ المّعقد.. حتى مختار المحلة حين يسأله أحد ما عني ، فأنه يهز رأسه ويمط شفته السفلى ليقول:

والله لا اعرف عنه الكثير .. قليل الخروج من الدار ..لم يلقِ التحية في طريقه على احد .. هذه الأيام تغيرت أخلاقه وانفتح على الناس في كل أرجاء المدينة .. رجل يكتنفه الغموض .. ليس إلا . أنا ناكر لجميل أبناء الشوارع حين اسميهم لانتقص من أرواحهم الهائمة في متون الارصفة والشوارع.. تبا لي.ز

لكني فقدت بالمقابل هذا الشارع الذي اغترف منه ، مما يدفعني نحو حياة أريد تدوينها الآن ..

ففي سنوات الطفولة المبكرة ، كان زي أبناء الذوات يختلف تماما عن أزياء أبناء الفقراء.. أبناء الذوات- لا اعرف لماذا أطلق على أولاد الأغنياء بذوات- ؟ هل نحن أبناء الطبقة الوسطى والفقراء بدون ذوات واضحة المعالم ؟

يرتدون البنطلونات القصيرة والقمصان الأنيقة وربطة عنق صغيرة وحمالات للبنطلونات وأحذية جلد حمر لماعة وشعور تلتمع ومصففة وبشرة بيضاء وبدانة واضحة.. كان أبناء الفقراء يرتدون دون اتساق ملابس شوارعية مقلمة بأزرار مختلفة وأحذية مطاطية دون جوارب ووجوه صفر وشعور منفوشة.. أما نحن فكنا وسطيون بامتياز في اختيار أزياء مناسبة .. الدشداشة داخل البنطلون دون حقيبة وأحذية من الكتان الأبيض وحقائب من القماش المستعمل وجيوبنا لوثها الطين الصناعي وحبات التمر ومصائد العصافير ..

هل كان الشارع غواية محضة في الضياع ؟ هل الشارع وفق نظرية أبي حاضنة لمرافقة أصدقاء السوء ؟ .. تدخين.. سهر.. موبقات كبرى؟ أم إن الكتب والبيت أضاعاني.. لقد افتقدت حيوية الشارع في الصغر وعشقته اليوم قبل فوات الأوان..لكن الشارع يبقى مادتي الأولى، ولإطلالة صادقة على أنساق تحولات أبنائه عبر أمكنة معلومة تبقى ويذوي أبناء شوارعها.. عليّ النزول مجددا نحو قاعه، وإدراك ما يحدث اليوم برؤيا ما يحدث في المستقبل وفق معطيات ماضِ مجرد..

نعم  تستطيع الأمكنة في حالة تجريد خالصة البوح عن سر كينونتها..

هذا مكاني .. العبارة التي اقتتل عليها أصحاب سوق الرصيف .. تحول الشجار الى قضية مركزية للدفاع عن متر مربع من الأرض العامة..

مرايا هذه الأمكنة  هوية العصر بكل عنفه وصخبه والتباسه .. قبل أن تتشابه الأمكنة وتصبح مكانا واحدا بفعل ما يسود في هذا العالم من غواية العولمة لاختصار مادتي الزمن والمكان لدحر خصوصيته.. بعد أن طغت وحدة الزمن في عصر ما قبل اليوم، فان هذا العصر هو عصر البحث عن إيقونات مكانية بوعي مركب البس كذلك؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram