طالب عبد العزيز
مجالس عديدة تجمعني مع أصدقاء أكاديميين، بعضهم أدباء بالقاب علمية رصينة (لستُ منهم بشيء) أمّا هم فمشرفون واعضاء في لجان تقييم مستوى طلبة الماجستير والدكتوراه، وأعرف عن قرب أمانة ورصانة بعضهم، وحرصهم على أن تكون علمية الطالب فوق كل اعتبار وخارج فضاء الصداقة والمحاباة، لكنني أسمع عن معاناتهم في الجامعة، بسبب تدنّي مستوى طلبتهم، والضغوط التي يتعرضون لها من جهات داخل وخارج الجامعة، التي لم تعد دارة للعلم بالمعنى التطبيقي بحسب غالبيتهم.
ولا نقول جديداً إذا قلنا بأنَّ التعليم في جميع مستوياته بات في أسوأ أحواله، لكنَّ الجديد هو انفتاح شهية الجامعات العراقية على قبول الاعداد الكبيرة من طلبة الدراسات العليا، في الوقت الذي يقرُّ الجميع فيه بأنَّ نسبة كبيرة من الأطاريح والرسائل العلمية بلا علم ولا قيمة لها، ولا تشكل اضافة في المعرفة، وهي مجردة من قيمتها الاكاديمية وأن الغالبية من هؤلاء لا يملكون التأهيل اللازم ليكونوا مدرسين في العليم الثانوي. أمّا حاملو الشهادات العليا من الجامعات الايرانية واللبنانية فهذه الكارثة بعينها.
اختارني أحدُ الاصدقاء التدريسيين في إحدى الجامعات العراقية مادةً درس لاحد طلابه في الماجستير، رحبت بالفكرة، فاتصل الطالب بي، ثم زارني في البيت، مع مصور، وأجرى حديثاً طويلاً معي، وكنت أجيبه بما عندي، لكنني في اللقاء ذاك، كنت أقع على اخطاء كارثية في لغته، فهو لا يراعي أدنى اشتراطاتها، وفي ختام اللقاء همستُ باذنه همسة محبٍّ مخلصٍ، بوجوب عنايته بلغته، لأنها من تحمله على أجنحتها الى الافاق. مرت سنتان على اللقاء ذاك، ولم يتصل بي، فحمدت الله قائلاً: لعلّه عاب همستي تلك، وأتمنى عليه أنْ لم يجدني خارج اللياقة، وربما تنبه للغته فأعرض عنّي، وإذا كان ذلك كله فقد وضع قدمه على الجادة.
أعرف أنَّ قضية التدني المعرفي والعلمي ليست خصيصة عراقية، فالكثير من البلدان العربية وغير العربية ربما تعاني مما تعاني منه الاكاديمية لدينا، لكنَّ الزيادة المهولة في عدد الاساتذة (الدكاترة) بيننا وشيوع الظاهرة الى الحد غير المعقول هذا وقيام الفضائيات على إطلاق كلمة دكتور على كل مسؤول حكومي تذكره، ونائب في البرلمان تسأله، ومتحدث في الفضائيات تحاوره، ومتصل بالراديو، وزعيم في حزب، وقائد في مليشيا، ومعمم في حوزة وانسحاب اللفظة هذه على كلِّ أفندي نصادفه في مؤتمر أو مجلس عزاء وفي السوق وصالة الفندق وو بات مقلقاً حقاً.
أحياناً، تردني اتصالات من إعلاميين وغيرهم بغية حديث عن الشعر والثقافة والمدينة فأفاجأ من بعضهم كلمة (دكتور) تسبق اسمي، فاسارع أوقفه قائلا: (أني مو دكتور). وفي صالة فندق الشيراتون كنت جالساً بانتظار احد الاصدقاء القادمين من بغداد حين جاءني (الكهوجي) -المفردة التي فصَّحها محمود عبد الوهاب قائلاً- هو(المُقْهي) حاملاً فنجان القهوة قائلاً:الله بالخير دكتورأعلمته بأنني (مو دكتور) لكنه فاجاني بقوله: عفواً دكتور، قلتُ له والله (مو دكتور).
من أشاع الظاهرة هذه يتحمل وزر تردي العلم والتعليم، ومن يظنُّ بأنها لفظة تفخيم فقد أفرغها من محتواها، ومن قبِل بها وهو ليس منها بشيء فقد ضحك على نفسه. لقد (ترذّلتْ) بتعبير محمود البريكان، الذي لم يكن دكتوراً.