لطفية الدليمي
المشهد الختامي من فلم (إنقاذ الجندي رايان) قطعة فنية مصنوعة بقصدية واضحة،هذا المشهد هو خلاصة حكاية من الحرب العالمية الثانية: يسأل الجندي رايان - الذي يبدو في طور كهولة متأخرة - زوجته:
هل كنتُ إنساناً صالحاً عزيزتي؟ هل تستحق حياتي التي عشتها تضحيات مجموعة من أولئك الشباب الابطال الذين فقدوا حياتهم لإنقاذي؟ ثمّ يقف والدموع تملأ عينيه - في مشهدية تعزّزها موسيقى درامية - ليحيي العلم الامريكي الخفاق وقد تخللته أشعة شمس ساطعة. هل كان ستيفن سبيلبيرغ مخرج الفلم ساذجاً في صنعته السينمائية ليقدّم لنا مشهداً يؤكّدُ قيمة الوطنية التي قد تبدو لبعضنا قيمة متراجعة في عصر العولمات؟ أبداً. يعرف سبيلبيرغ – وهو مفكّر سينمائي وليس محض صانع صور سينمائية مبهرة - ماذا يفعل، ومَنْ يخاطب، وأية رسالة يريد تمريرها.
قد تكون عبارة (الانسان الكوني) من العبارات المحبّبة إلى الروح؛ إذ نلمح فيها شحنة شعرية عاطفية تتعالى على محدوديات الزمان والمكان والبيئة. كلّ ذي نزوع للحداثة والعقلنة والسلام العالمي والتقدّم الانساني لابدّ أن تكون فكرة (الانسان الكوني) قد داعبت خيالاته في بواكير حياته. العبارة ذاتها ليست إبتداعاً حديثاً بل في مقدورنا أن نتلمّس بداياتها في عصر شيوع النزعة الانسانية في أعقاب ثورة الاصلاح الديني الاوربية. الفكرة جميلة في متبنياتها وغاياتها: كلنا أناسٌ مخلوقون بالكيفية البيولوجية ذاتها، وعلينا أن لاندع إعتبارات قومية أو عرقية أو سياسية أو،،، تخرّب نزوعنا نحو أصل الفرع الانساني. الأصل هو السير في التيار الانساني الدافق بدلاً من الغرق في روافد ضيقة تحت مسمّيات عدّة منها القومية والدين واعتبارات التاريخ والجغرافيا والسياسة.
لكنّ واقع الحال يخبرنا أنّ النزوع الرغائبي شيء، ومتطلبات عيش حياة قابلة للاستمرارية شيء آخر. ليس منّا من هو فردٌ هلامي من غير صفات، معلّق بين أرض وسماء. لابدّ من مجتمع محدّد ومسؤوليات محدّدة يحكمها قانون. لابدّ من دولة ينتمي لها المرء بكلّ شروطها المحدّدة في نهاية الامر. هذا هو واقع الحال كما نشهده ونعيشه.
يمكن فهم التطور البشري - عبر شكل التنظيمات البشرية - بأنه ارتقاء من الصغير إلى الكبير، وتخلٍّ عن بعض الحقوق (الطبيعية) للصغير دعماً لسطوة الكبير. الصغر والكبر هنا هي محض مقارنات في الحجوم العددية. الصغير هو الفرد الواحد، والكبير هو كل ماعداه من ترتيبات تنظيمية. تدرّج الكبير من العائلة والقبيلة حتى إنتهينا إلى شكل الدولة الحديثة. كلّ شكل تنظيمي يفرض شروطاً وتحديدات على الفرد، وكذا تفعل الدولة الحديثة. الوطنية واحدة من هذه الشروط.
الوطنية كمفردة لاتُذْكَرُ إلا وتستثير زوبعة من الاشكاليات معها. حتى جذرها اللغوي ينطوي على التباس. تشيع في فضاء الثقافة الانكلوساكسونية مفردة Nationalism كمقابل للوطنية، وقد يراد منها أيضاً القومية. يريد الاوربيون مساواة الوطنية بالقومية لأنهم هم من إبتدعوا مفهوم الامة – الدولة؛ بينما لايقبل الامريكيون هذا ؛ فأمريكا تشكّلت من قوميات متعدّدة إلى حدّ ماعاد التعويل على معيار القومية يصلح مقياساً للوطنية؛ فابتدعوا مفردة Patriotism - الولاء كمقابل للوطنية. الخيط الجامع لكلّ أشكال الوطنية هو (الولاء) والاخلاص للدولة بكلّ تمثلاتها الرمزية والقانونية.
سيتحدث البعض عن العولمات باعتبارها أمراً عابراً للدولة ومتجاوزاً لها. هذه أكذوبة خالصة. لم نبتدع حتى اليوم شكلاً من التجمّع البشري يتجاوز فكرة الدولة. العولمات ابتداعٌ خلقه المتنفذون الماليون والتقنيون لكي يحكموا سيطرتهم على المفاصل العالمية التي لم يتحكموا بها بعد، ومتى مااستنفدوا الفوائد المجتناة من تلك العولمات سيغادرونها بلا رجعة. الامر ذاته يصحُّ على الاتحادات (مثل الاتحاد الاوربي): يدخله البعض طمعاً في منافع منتظرة أو رغبة في تعزيز السطوة السياسية والاقتصادية. تبقى الدولة وقوانينها هي الترسيمة الحاكمة في عالمنا الذي نعرف.
إشكالية كبيرة تلك التي نعانيها في فهم الوطنية العراقية. لابدّ من القول أنّ الوطنية العراقية مفهوم منفّر لكونه يتطلب من المواطن تضحيات لانهائية تتوّجُ بالشهادة في سبيل وطن لم ينجح في صناعة دولة (لن نقول دولة حديثة). ثم أنّ موضوعة الولاءات في العراق لاتنتظم في صياغة قانونية تخرجُها من عباءة الانتماءات الفرعية. الأهمّ من كل هذا أن يسود فهمٌ جمعي بأنّ الوطنية مفهوم عملي ينتفع منه الفرد في تيسير شؤون حياته وليست شيئاً يفرضُ بمفاهيم قسرية تدعمها قوانين جائرة. مازالت وطنيتنا العراقية (المأمولة) غير متشكلة على أسس قانونية ضابطة. كلّ مانراه من (هوسات) تنادي بالوطنية ليس سوى زعيق أجوف يستجدي في الغالب مطلباً من مسؤول حكومي. صارت الوطنية مشهودة في تمثلات القوة المقترنة بمسؤول حكومي بدلاً من العراق / الوطن. يمكن أن نسمّي هذا فلكلوراً في الاستعراضات الوطنية. لم يشعر العراقي يوماً أنّ وطنيته هي التي يجب أن تحدّد مقدار رُقيّ عيشه. وطنيتنا العراقية مشهديات استعراضية تجري وقائعها المعلنة من قبل منافقين أو مرتزقة لحزب أو متنفذ سياسي أو حكومي.
ليس مثال (الانضباطية) الذين يلاحقون الجنود الهاربين ببعيد. ثنائية الانضباطية / الفرارية مثالٌ على تهافت وفلكلورية مفهوم الوطنية لدينا. لطالما كره الناس رجال الانضباط العسكري رغم أنهم في العرف القانوني يمثلون أحد أذرع تنفيذ القانون؛ وتحولت كراهيتهم إلى موضوعٍ للتندّر والفكاهة. جرى تضييق الحياة في عراق مابعد 1958 واعتبار الخدمة العسكرية الالزامية المثال المعياري الأعلى للوطنية.
الناس في عالم اليوم تدرك قيمة نزعتها الوطنية عندما ترى هيبة عملتها، وسطوة جواز سفرها، وذيوع صيت جامعاتها ونظمها التعليمية، وسلامة هوائها، ورصانة منظومتها الصحية، ومتانة ونزاهة قضائها.
الوطنية هي أن تعيش حياة طيبة في دولة محترمة، دولة أمنٍ وخدمات تكفلُ لك إطلاق مواهبك - متى شئت إطلاقها - من غير عوائق، ولاتفرض عليك التزامات خارج نطاق القوانين العالمية المحترمة ؛ أما من يريد حصر الوطنية في مثال جثة ملفوفة بعلم أو باستعراضات فلكلورية خائبة فليس لنا إلا أن نقول له: الوطنية الحقيقية أكبر من مثال واحد صغير ترتضيه للآخرين ولاترتضيه لنفسك. دعْ وطنيتك هذه لك ولأولادك ولأقربائك ولقبيلتك. لك وطنيتك ولنا وطنيتنا.