اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: بين التانغو والخشابة

قناطر: بين التانغو والخشابة

نشر في: 28 يناير, 2023: 10:23 م

طالب عبد العزيز

بدشداشة بيضاء وأصابع مثل أقلام الصفصاف انتشل سعد اليابس، عازف الطبلة الاشهر في البصرة فن الخشابة من الابتذال. هو ومجموعة من زملائه الفنانين نقلوه من الصخب والمجون الى النظام والحشمة، وكان لصمت اليابس وهدوئه واتزانه فعل السحر في تغيير وجهة نظر الناس عن الخشابة، الفن الذي نشأ في ظروف وأمكنة ملتبسة، وتعاملت طبقات المجتمع البصري معه منذ أربعينات وخمسينات وستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي كما لو أنه مرتبة منحطةً في السلوك الإنساني.

يقول بورخيس:" للتانغو جذرٌ معيب" والخشابة لها جذرٌ معيب أيضاً. ففي السنوات تلك كان الكثير من جماعة الخشابة، من السود والبيض، في البصرة القديمة والزبير وابو الخصيب لصوصاً، ومتهمين بانحرافات أخلاقية وجنسية، ومعاشرة الصبيان، لذا فهم غير محترمين، وكثيرا ما نشأتْ بينهم خصومات وصدامات تبدأ بالعصي، ولا تنتهي بالخناجر والسكاكين، لذا فهم رجالٌ أشداء بمعنى ما، وذوي بأس، وكثيراً ما شاهدتُ سكاكينهم تلك، محشورة في جيوبهم مع علب السكائر وقناني الخمرة. كنتُ أتلمس الفجوة الضيقة بين ما أسمع من أغانٍ والتماعات الانصال التي ربما سالت منها الدماء. حتى ليبدو لي الخشَّابُ مثل راقص التانغو الاول في بيونس آيرس بالارجنتين، الذي نشأ بين أوساط الزنوج، وفي بيوت سيئة السمعة (الدعارة) حيث كانت تشهرُ السكاكين ايضاً. هذا الفن الذي رفضته طبقات المجتمع هناك، مع أنه كان يقام في مناسبات عقود القران والزواج.

قبل أنْ يبتكر الخشَّابُ (خليف السعيد) فكرة كسر قحف الطبلة برأسه، إذا أخفق الولد الراقص معه ولم يأت صوتُ الطبلة المكسور منضبطاً مع حركته في الرقص (ينكسر الصوت حين يخسف الطبّال جلد الطبلة بيد ويضرب عليها بالاخرى) قبل الوقت ذاك كان الشجاريأتي على الطبول أيضاً، فتمزِّقُ الجماعةُ هذه جلود طبول الأخرى وتهشِّم قطعَ الفخارأو تقذف بها في النهر.. هكذا مثلما حدث في الرقصة التي سخر فيها عازف القيثارة من كُروس في احدى الأماسي ببيونس آيرس. ولم ينتظر كروس فقام من جهته بقطع اوتار القيثارة بالخنجر، ثم دعا عازف القيثارة الى مبارزة فقتله بوحشية:" هناك تركتُه مبعوجَ الأحشاء/ كما لو ليصنع منها أوتاراً».

إذا كان فن التانغوقد نشأ في أحياء الزنوج الفقيرة في بيونس آيرس، وهو افتراضٌ اعتمده بورخيس ليس إلا، فأن فنَّ الخشابة لم ينشأ في حمدان، القرية الصغيرة، التي تقطِّع الانهارُ دروبَها، وسط غابة النخل، حيث كان (ربيع خميس وشقيقه معتوق) ومن قبلهما العم (عنفوس) هناك، ولم تكن بليدة الزبير موطناً له، حيث كان أبو دلم وحميد مجيد يغمرون رملتها بأصواتهم، كذلك لا يمكننا ان ننسبه الى محمد بتور في البصرة القديمة، لكنَّ الفنَّ الملتبس هذا حاصر المدينة من جهاتها الثلاث، واتنشر مثل أوراق كتاب اسطوري بعثرته الريح.

يقول محمود مبارك بانَّ السفن التي أبحرت من مومباسا بتانزانيا هي التي حملت معها خليف السعيد وحشد الاصوات الشجية تلك، فأقول: ولعلها تلك التي أقلعت من زنجبار والساحل الافريقي.

بدشداشته البيضاء وغترته الحمراء خلص سعد اليابس فن الخشابة من دونية ماضيه، ونصبه لوناً غنائياً بصرياً خالصاً، إذ، لم يعد الناسُ يتحدثون عن الخشابة إلا بوصفها الفن الجميل الذي يطرب له الجميع، وبدونه لا تحلو مناسبات عقود القران والتزويج والنجاح. وإن لم يذهب أحدٌ به الى باريس، كما فعل بالتانغو زنوجُ بوينس ايرس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram