حيدر المحسن
وصلتُ أخيراً إلى ورشة الحدادة التي تقع عند أطراف المدينة. المكان مملوء بالشمس الحارقة وبالغبار، سقف المبنى متهدم والباب مفتوحة على اتساعها. الورشة كانت في السابق معسكرا لتدريب الجنود، بعد نهاية الحرب صارت مجموعة محلّات مشبوهة لبيع قطع غيار السيارات المسروقة. بضعة مبان على اليمين تحولت إلى أنقاض، ثمة فناء حافل بقطع الحديد وإطارات السيارات وأجزاء من سيارات ودراجات وغيرها.
ظهر لي صبيّ يفصّص بذور عباد الشمس، عينان ودودتان وفم صغير ووجه ملطّخ بالزيت، ثم برز رأس صغير لامع لصبيّ آخر منهمك في تنظيف سبيكة من المعدن بفرشاة حديد، ثيابه الرثة لم تكن سوى أسمال.
«أبحث عن عامل اسمه جمال».
قلت، وحرّ الظهيرة والتعب يثقلان أنفاسي. على جانبي المبنى أشجار خفيضة يابسة تظلّل عشباً رماديّ اللون. ثمة مستنقع وأزبال مبعثرة وكلاب هزيلة تشمشم الأرض، الذباب هو الشيء الوحيد الذي يدلّ على الحياة في هذا المكان المعزول والنائي. انتبهت إلى أريكة قديمة مركونة في الظل يرقد عليها كهل بثياب العمل. وجهه، بشعره القليل الباهت اللون، يشبه وجه عَظاية. السكون شامل عدا حركة الصبيين اللذين كانا، فيما يبدو، يقضيان وقتاً سعيداً رغم القذارة والغبار والحرّ.
«هل سرقك؟».
سأل الرجل ذو وجه العَظاية، وتثاءب بصوت مسموع. السماء الصافية كانت تنتقل فيها غيمة من غيوم الصيف.
«لم يسرق منّي شيئاً. أحمل إليه رسالة من أهله».
«أنا واثق أنه سرقك وتريد أن تقوده إلى السجن».
صاح الكهل وهبّ من رقدته، عيناه الخاويتان والعَتمة العميقة في وجهه دلّت على أنه كان ثملاً.
«ولكن مَنْ قادك إلى مكاننا، نحن نعيش خارج العالم؟».
قطة سوداء تمشي بطيئة، تقترب من المستنقع. الكهل يعالج قنينة عرق، يحاول أن يفتحها ويداه ترتعشان. يبدو أنه متعطش للشراب حتى الموت.
«أبوه يرقد في المستشفى، قصور كليتيه وصل مرحلة أخيرة». قلتُ، وزعق الكهل السكران:
«وهل يفيدك بشيء هذا الجرو؟».
وأخذ طريقه داخل المبنى، وعاد يسحل طفلاً من ياقته: «إنه يسرق طوال الوقت ويحشش ويتشاجر». توقف الصبيّ عن العمل عندما بدأ الكهل يرفس الطفل على بطنه.
«أبوك يموت وأنت تشمّ المخدرات، يالك من كلب سائب قذر».
حدّق الكهل بوجهي وشاهدتُ القسوة والجوع في عينيه، عيني العَظاية.
التفتّ إلى الطريق الترابي الذي عليّ أن أعود وأقطعه سيراً على الأقدام، وكنت أسمع المكان يضجّ بأصوات الصيف وهمهمة الذباب.
«إنه نغل، لا يفيد في شيء سوى في ...».
قال الكهل، وأتى بحركة بذيئة من جذعه جعلته يترنح ويوشك أن يسقط في حفرة يملؤها رماد إطار سيارة يحترق. استوى واقفاً، وكان يترنّح ويضحك، أسنانه المتكسّرة جعلت وجهه يبدو أكثر قسوة. شرب من قنينة العرق وأصدر صوتاً كالنباح. ثم رفع إليّ عينين قاتمتين، وقال بصوت حزين مرتجف:
«أخشى أنك ارتكبت خطأً في طريقك إلى هنا».
رمى عقب سيجارته، واندفع مباشرة إلى الصبيّ ولطمه على وجهه، وظلّ يضرب والصبيّ النائم يحاول أن يغطي رأسه بذراعيه. كان الكهل يصرخ.
«الدنيا ظهر وأنت نائم، متى تصحو إذن؟».
تنهّد الصبي. حاول أن يفتح عينين مطفأتين مخدّرتين، الألم الذي كان يسربله زاد من صفاء سحنته. كان الذباب يملأ الجروح والسحجات على ذراعيه وعنقه ووجهه. ثم أطلق أنيناً واضحاً، وعاد مستريحاً إلى نعاسه مغمض العينين، شعره الكثّ مغبرّ وعلى وجهه الضئيل خطّ عريض من أثر جرح مندمل.
لبثتُ ساكناً أتأمل وجه هذا الشقيّ النائم في التراب والشمس. شيء من الشكوى في شفتيه، مثل لون للملامة يختبئ خلف خدر الحشيشة. وجنتاه الناعمتان وجبينه الصافي وشعره الجميل المبعثر فيه بَركة خفيّة تأكدت منها وأنا أبصره مليّاً، بركة جريحة منوّمةً لكنها سوف تستيقظ ذات يوم وتعمّ وتغمرنا جميعاً.
جميعاً،
أنا والصبيَّين العاملين والكهل اللوطيّ السكير والأب المريض بعجز الكليتين... وأنتم.