يحلق طائر الموت فوق حياتنا منذ اندلعت ثورة 25 يناير التي سقط فيها مئات الشهداء وآلاف المصابين، ولم يغادرنا طائر الموت بعد أن نجحت الثورة في إزاحة «مبارك» وحاشيته، وإنما أخذ يلاحق خطانا من مسرح البالون إلى شارع محمد محمود ومن ماسبيرو إلى بورسعيد .. ويعاود ملاحقته لنا هذه الأيام من سوريا إلى غزة ومن الفيوم إلى أسيوط لتصبح المراثي جزءا من حياتنا اليومية وكأن الألم الذي «آخى رؤانا من قدم» على حد تعبير الشاعرة العراقية الراحلة «نازك الملائكة» قد اعتاد صحبتنا ولا يريد أن يغادرنا.
ولكن هذا الألم العميق يطرح أسئلة كبرى عن الحق والمسؤولية وكرامة الإنسان، بل ويعيد طرح شعارات ثورة 25 يناير عيش.. حرية عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية ويدعونا للتفكير فيها فضلا عن ازدراء طريقة الحكم الموروثة من عهدي «مبارك» و«السادات» والتي طالما توقفت أمام مقايضة الأرواح بالأموال الهزيلة والإعلان عن هذه الأموال وكأن المسؤولين يدفعونها من جيوبهم، وهي نفسها الطريقة التي يتعامل بها الحكم مع حقوق الناس ومطالبهم ،معتبرا أن الأموال العامة من دخول للدولة وميزانيات هي ملكية شخصية للحكام يمنون ببعضها على الرعايا البؤساء الذين يتسولون أرزاقهم من سلاطين طيبين. ذلك أن رؤية حكامنا الجدد والقدامى لم تكن قد ارتقت بعد لترى في الأفراد مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. ومتابعة المناقشات التي تدور الآن في أوساط قوى الإسلام السياسي حول ما يسمونه بهوية الدولة تدلنا على هذه الرؤية والطريقة في التفكير. إن المواطنين هم رعايا تماما كما كانوا في ظل الخلافة الإسلامية يرتبط مصيرهم بإرادة الحاكم كما لو برباط سري، ولا تجوز مساءلة الحاكم ولا وضع أي أسس عصرية لهذه المساءلة كما هو معمول به في البلدان الديمقراطية، ولذا تأتي المواد التي وضعها الإسلام السياسي لتحدد صلاحيات الرئيس في مشروعهم للدستور، مانعة حاكما مستبدا جديدا يستمد تفويضه من الله سبحانه وتعالى. وهو لذلك فوق أي مساءلة من البشر الذين هم رعاياه يتصدق عليهم من الأموال التي منّ الله سبحانه وتعالى بها عليه حين تحل بهم كارثة ، كما حدث قبل أيام لقطار أسيوط الذي أودى بحياة خمسين طفلا وحطم قلوب المصريين. لا فحسب ألما لما أصاب هؤلاء الأطفال وأسرهم، وإنما أيضا خوفا من أن يأتي يوم يدفعون فيه هم وأطفالهم ثمن هذا التدهور العام في المرافق ، وعدم وجود أي خطة لإصلاح الحال المايل في كل مناحي حياتنا التي يحلق عليها طائر الموت في كل حين ليختطف الشبان والشابات والشيوخ رجالا ونساء لأن الإنسان في بلادنا كان ولايزال هو أرخص رأس مال يمكن تعويض أسرته بعشرة آلاف أو خمسة آلاف من الجنيهات. والنظر للإنسان على هذا النحو هو حاصل سياسة حكومية طبقية وجاهلة تتعامل مع البشر كأنهم زائدون عن الحاجة، وتدفع بالميسورين والقادرين إلى التماس حلول فردية لكل المشكلات الكبرى التي تواجه البلاد، فتدهور التعليم العام تدهورا غير مسبوق فيرسلون بأبنائهم إلى مدارس خاصة وأجنبية باهظة التكلفة ويتدهور مرفق النقل بصورة مشينة فيلجأون إلى المزيد والمزيد من السيارات الخاصة وتتكدس المدن ويهدر الزحام وتعثر المرور طاقة وجهد ووقت أي ثروة، ويتلوث الهواء والغذاء والماء فيلجأ القادرون إلى المنتجعات والزراعة العضوية والمياه المعدنية، وهكذا دواليك.
وتقضي هذه السياسة الطبقية الجاهلة التي تفسخ المجتمع وتحلل الروابط الاجتماعية وتراجع القيم الايجابية كافة، وتسود حالة من الفردية المدمرة النابعة من صلب السياسات الحكومية الجديدة التي لا تكتفي بزيادة الانقسام الاجتماعي ووحشيته باسم الليبرالية الجديدة وحرية الأسواق، وإنما تعمل بجدية خالصة ولعلها أن تكون المظهر الجدي الوحيد لممارستها- تعمل من أجل تفكيك منظومة الدولة الحديثة ومؤسساتها وبخاصة مؤسسة القضاء التي تظل- رغم كل شيء- حامية لمبدأ المواطنة والمساواة بين البشر وإن كانت هذه المساواة تبقى حتى الآن في الإطار القانوني.
إن طائر الموت لا يحلق فحسب على حياة البشر كمواطنين وإنما يحلق أيضا على مؤسسات الدولة وهو يكشف مناطق الترهل والتعفن فيها، ويدعونا لطرح شعارات ثورة يناير مجددا والنقاش حولها ومجابهة الطريقة الإنشائية البدائية التي يتجلى بها ما يسميه الحكم الجديد بمشروع النهضة، بينما هو يعيد إنتاج النظام الساقط بصورة أسوأ وأشد سقوطا مما سبق مستعجلا بذلك طائر الموت ومستعجلا في نفس الوقت الموجة الثانية من الثورة التي هي آتية لا ريب فيها.