حاجتُنا للمثقف الناقد بدلاً من المثقف الناقل

سعدون هليّل

يفتتح الباحث ناجح المعموري كتابه الجديد «اليومي والمتكرر في ملحمة كلكامش» بنافذة، عدّها تجربة ثقافية،

وفي مجال حيوي كبير، تنطلق من البحث عن اليومي وغير المألوف، وتُشرع بجميع المصادر الاجتماعية والمعرفية لتغذي هذه التجربة، وفي الواقع يعد كتاب المعموري وفقاً لذلك، أحد المصادر التي تكشف عن الذات الرافدينية وتواصلها التاريخي حتى اللحظة الراهنة، وهو ما يميز هذا الكتاب من أنه يقوم على محور محلي وشرقي غير عابئ بالمركزة الغربية وشكل جديد من البحث الخارج عليها.

والكتاب صادر عن دار المدى 2023، في طبعته الأولى، ومن القطع المتوسط بلغ عدد صفحاته 176 صفحة.

اشتمل بحث المعموري على خمسة فصول بدأها "باليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش" مستعرضاً ما احتوته الملحمة من إثارة للاهتمام لدى الباحث والمتلقي مركزاً على أول ما سجله من الملحمة وهو الاستهلال النصي" بوصفه نصاً مهيمناً وله تأثير عالق في الذاكرة" ويصفه المعموري مثل ضوء مشع ومنير، ويتمثل بالغور في الوقائع والحقائق التاريخية المقترنة باوروك كمدينة ومملكة حاضرة فيها.

وفي الفصل الثاني الذي حمل عنوان "لذائذ الحياة ومزاولة الفرح" تطرق فيه الباحث الى التمثيل العميق والبليغ عن الامتحان الصعب الذي عرفه كلكامش كونه يشكل تحولاً ومركزاً جوهريا مهما في كثير من آداب الشرق، ويضرب على المثال ما أسماه بالتجاور التوراتي مع ملحمة جلجامش.

ويستشهد المعموري بما يراه فولتير بأن ليس هناك أكثر صدقاً من القول اللاتيني المأثور: " لقد تعلم المصريون من البابليين واليونانيون من المصريين.

تحدث أيضاً عن لذائذ الحياة ومزاولة الفرح، ثم بحث في التكرار وشفاهية التداول، ثم مر على المسكوت عنه في ملحمة جلجامش.

فيما جاء الفصل الثالث المعنون "تكرار شفاهية التداول" ليتصل بنمو وترابط الفصلين السابقين عبر ظاهرة تكرار الرواية الشفوية والإنشاد حيث كان المنشد " يستعين بالتكرار ليستعيد الى ذاكرته ما ينشده من أبيات تالية وشبيهة بالملاحم القديمة التي شاعت في أوربا القرون الوسطى، والتي كان الكثير منها يروي أحداثا تاريخية".

واستكمل الباحث في الفصل الرابع من الكتاب بالإشارة الى ملحمة كلكامش ودورها كنص أزلي أول في حوار الحضارات.

وينبه الباحث الى خطورة بعض المصطلحات التي تفوح منها رائحة التبعية للآخر "والانصهار مع المركزية الغربية والاقتناع بكل ما قالته عن الشرق" القديم.

أما الفصل الخامس والأخير، "المسكوت عنه في ملحمة جلجامش" فقد بدأ بتاريخ تدوين الملحمة كونها أقدم ملحمة أدبية، صاغتها حاضرة الشرق الأدنى، وأسهم في الكشف عن ذلك العديد من الباحثين حيث أثبت الكثير منهم على أن نص الملحمة، ابتدأ تدوينه في حدود القرن الثامن عشر قبل الميلاد حسب الدكتور نائل حنون.

وفي الجزء الثاني من الفصل الأخير، الذي جاء بعنوان "الطاغية الأول في الشرق" يكشف فيه ما عانته مدينة أوروك من بطش وقسوة من قبل الملك كلكامش وما حصلت جراء ذلك من تمردات وشكاوى الى الآلهة في مجلس البانثيون العراقي، أدت الى اتخاذ قرار من قبل الآلهة لخلق كائن شبيه بالطاغية ليكون نظيراً له وللحد من طغيانه.

وتطرق الى دور العالم الكبير طه باقر الريادي في ترجمة الملحمة في بداية الخمسينيات وما استكمله الدكتور نائل حنون بوصفه قد قدم ترجمة حديثة لأثر طه باقر.

علاقة جلجامش وأنكيدو

تعبير قصصي وملحمي عن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان فالعلاقة التي نشأت بين الصديقين قد تخطت منذ البدء مراسيم السياسة، ومنطق الكراهية، وتأكيد الذات، الى فضاءات إنسانية أرحب وأوسع.

في البدء كان كلكامش يمارس طور الطاغية المستبد، الطاغية الذي أرهب أهالي أوروك.. لقد أرهقهم ظلماَ وعدواناَ بما امتلك من قوة جسدية هائلة.. وجوع غريزي لا يرتوي.. كان المثل الأعلى عند كلكامش هو قوة الثور الوحشي حيث لا نجد لديه أي معنى للرحمة والشفقة وكلكامش كما يبدو من أنساق الملحمة قبل أن يتعرف على أنكيدو، يجهل أي معنى للعدل والمساواة أو روح الأخوة الإنسانية، وقد مضى بكل غطرسة الى توكيد قيم القهر والبطش والقوة والغريزة.

وحين واجه أنكيدو، فإنه لم يمتلك من القيم المدنية أو الإنسانية أكثر من قيم الصراع والبطش التي عرفها من قبل.. من الأحاسيس التي نتلمسها في بنيات السرد في الملحمة.

السرد في الملحمة

إن سياق نص الملحمة، تعتمد في أن توضع في مواجهة وحشية أكثر بدائية من كلكامش.. انه أنكيدو ذلك المارد الذي نشأ في البرية كوحش، واكتسب طرائق الوحوش، لكن ذلك الوحش سوف يفقد جزءاً عظيماً من طاقته الغريزية بعد أن عرف المرأة، وفي هذا تمهيد واقعي لتسوية النزاع بين الوحشين أو الجبارين.

إن سياق النص وبنية السرد لا تسمحان مطلقاَ بهزيمة جلجامش بطل أوروك القومي، لذلك اقتضى سياق النص اختزال الطاقة الوحشية لجسد أنكيدو الى أقل من نصف طاقته البدائية.

إذن ما الذي اكتشفه جلجامش وهوفي حومة الصراع ضد أنكيدو!؟

لقد استنفد الصراع العنيف ضد بطل جبار يقاتل بأقل من نصف قواه الوحشية، فاقت غطرسة ووحشية، وتجبر وتكبر جلجامش.. تلك هي نقطة الانقلاب التي حدثت في شخصية جلجامش.

لقد اكتشف جلجامش ان القوه الوحشية ومنطق البطش غير كافيتين لتحقيق غايات الوجود..وبدل ان تولد الضغينة بينهما والعداوة.. ظهر الأعجاب والأحترام الشديدين بينهما..هنا يكشف كلكامش لحظة من لحظات الصدق، التي تعني بأن روح الانسان لا يمكن ان يكون لها معنى دون ان تكتمل وتنضج بروح انسان اخر …ها هنا يتعرف كلكامش على معنى جديد للوجود..انها الصداقة المتكافئة بين روحين عظيمين ومتكاملين.

الموت عند كلكامش

نختلف مع الباحث القدير المعموري حول مفهوم الموت عند كلكامش وعلاقته بأخيه انكيدو، ليس في حدود ضيقة تتلخص بالعلاقة الجسدية بل تتعدى ذلك الى المفهومين الأنساني والوجودي بدليل:

عندما يتحدث جلجامش مع صاحبة الحانة قائلاً لها:

وكيف لا تذبل وجنتاي

ويمتقع وجهي

ويملأ الأسى والحزن قلبي

وتتبدل هيئتي فيصير وجهي أشعث كمن انهكه السفر الطويل.

وقد أدرك مصير البشر صاحبي وأخي الأصغر.

أما ما ورد في آراء عدد من المستشرقين الذين تحدثوا عن هذه العلاقة المثلية المتهافتة كما يسميها الشاعر والباحث شاكر لعيبي.

وللأسف، فان بعض الباحثين العرب والعراقيين متأثرون بعوامل التبعية للآخر الغربي في هذا الخصوص. ونحن بحاجة الى المثقف الناقد بدلاً من المثقف النقال.

وحينما رقد انكيدو أمام جلجامش مريضاً، ونزلت دموعه بغزارة وهو يقول لكلكامش- يا أخي يا أخي الحبيب سوف لن يدعوني أقوم ثانية، سأجلس بين الموتى، سأعبر عتبة الأموات ولن ارى أخي الحبيب ثانية.

ان الموت عند كلكامش سيبقى لغزاً محيراً، بعض المستشرقين يسقطون ذواتهم الحسيه المتطرفة فيظنون ان معنى العلاقة بين كلكامشوانكيدو، يتضمن اشارات جنسية مضمرة، وهذا تعبير عن قناع مضمر لحضارة مادية وحسية ناضبة أخلاقياً،ومفلسة روحيًا..فأولئك الذين اعتادو ان يفكروا بطرق حسية او غريزية سطحية غير قادرين ان يدركوا معاني السمو في النفس البشرية، لذلك نراهم يبحثون في كهوف الغرائز البدائية للأنسان عن تخيلات غير عقلانية..إنهم لا يدركون النفس البشرية كونها تنقلب على ذاتها في ساعة من ساعات الأنكشاف والانعتاق والتحرر، وهذا ما أدركه جلجامش فجأة في اوج موجة الصراع ضد انكيدو.

الصداقه تعني انبثاق الذات في لحظه الانكشاف والانعتاق من اسى الغرائز الذاتية..اللحظه التي نتعرف بها على الحرية وفضاء الحرية.. لم يعد للانتصار اي معنى في قناعات جلجامش عندما اكتشف عظمه الروح التي تسري في جسد انكيدو …لقد تحرر جلجامش اخيراً من عبودية القوة ووحشية الغريزة والرغبة في الانتصار.. في تلك اللحظه الحاسمه اراد جلجامش ان يكون صديقاً واخاً وساعداً لانكيدو..ومنذ لحظه الإنعتاق تلك.عرف جلجامش انه ليس اكبر من لحظة فانية دون أن يكون له صديقاً عظيماً مثل انكيدو..

ولكن ماذا لو خسر جلجامش صديقه.. لو مات انكيدو مثلًا.

وهذا ما حصل فعلًا بعد ذلك …

حسب مقتضيات السياق، الحياة لم يعد لها معنى، ولا أدنى قيمة..إذا أين ذهبت قيم واعتبارات جلجامش السابقة.. ماذا حصل للقوة الغاشمة المودعة في جسد كلكامش؟..واضح جدًا..ان جلجامش ظهر خائفًا،جزعاً،يائسًا،مضطربًا..

الانسان لا يساوي شيئًا امام قوة وجبروت الموت والمرض والشيخوخة..

وكما استطاعت شمخة اختزال وحشية وقوة جسد انكيدو من قبل، فان جلجامش يذهب الى سيدوري لتهذب روحه بالحكمة والموعظة وترشده الى طريق الانسان..تعلمه ان الانسان اخ للانسان.وان لا قيمه لحياتنا الدنيوية الفانية دون ان نضعها في خدمة الانسان الآخر..يجب ان يكون لنا هدف سامي ونبيل..ففي مجتمعات الكراهية والعبودية..لا يوجد ثمة انسان سعيد..وتلك المجتمعات لا يمكن ان تتعرف على معنى السعادة او الحكمة..هذا ما تعلمه جلجامش من سيدوري.

هذه المعاني السامية والنبيلة المودعة في ملحمة جلجامش، تختلف إختلافاً جوهرياً عميقاً مع منطق أولئك المستشرقين الذين يبحثون عن الشهوة والرذيلة في قراءة نصوص الملحمة.

ختاماً جزيل شكرنا وتقديرنا الى الباحث القدير الاستاذ ناجح المعموري الذي دعانا الى العودة باستمرار الى قراءة الملحمة الرافدينية الخالدة.