ثائر صالح
يعد المؤلف الروسي دمتري شوستاكوفيتش (1906 - 1975) أحد أعظم الموسيقيين في القرن العشرين.
وعُدّ كذلك أهم مؤلف في الاتحاد السوفيتي في حياته، ليس من دون سبب، وكان الإهتمام به وبأعماله كبيراً في الغرب في حياته، وزاد هذا الاهتمام أكثر بعد مماته. قدمت سيمفونيته الأولى في برلين سنة 1927 وهو بعمر الحادية والعشرين من قبل قائد الأوركسترا الشهير برونو فالتر (1876 - 1962)، وفي الولايات المتحدة العالم التالي على يد المايسترو الشهير الآخر ليوبولد ستوكوفسكي (1882 - 1977). أصبح تدشين شوستاكوفيتش عمل جديد له حدثاً مثيراً في أوروبا والولايات المتحدة منذ ذلك الحين.
فما الذي يجذبنا إلى موسيقى شوستاكوفيتش؟
بادئ الأمر يتحتم علينا التذكير باشتغال شوستاكوفيتش بالعزف الارتجالي على البيانو في صالات السينما الصامتة وهو في السادسة عشرة لإعالة عائلته بعد وفاة أبيه. ثم أخذ لاحقاً يؤلف الموسيقى للأفلام، وكان من أوائل مؤلفي موسيقى الأفلام السوفيتية، أول أفلامه كان "بابل الجديدة" (1928 - 1929). من موسيقى الأفلام المهمة التي كتبها "الرجل بالسلاح" (1938) وكذلك "قراد الخيل" (1955) وآخرها الملك لير (1971). كتب كذلك موسيقى أفلام الأطفال المتحركة وأخرى مصاحبة للعروض المسرحية ليبلغ عدد الأعمال التي كتبها للسينما والمسرح أكثر من 50 عمل، اشتهر بعضها وأعاد كتابته كعمل منفصل. كل هذا أكسبه قدرة هائلة التعبير والتصوير الموسيقيين، وبرع في توظيف أدوات الأوركسترا المختلفة في هذا التصوير بشكل كبير ووظّف لهذا الغرض الكثير من التقنيات منها اقتباس ألحان ترتبط بحدث معين، مثل الإشارة إلى ألحان الأناشيد الثورية في أعماله الوطنية. لهذا تثير موسيقاه مخيلة المتلقي التصورية، وكثيراً ما يثير مقطع ما في أعمال نقاشاً واسعاً ومثيرا بين الباحثين عن ماهية الصورة التي يود شوستاكوفيتش نقلها للسامع في هذا المقطع أو ذاك.
الجانب الآخر المهم في أعماله مما يثير اهتمام محبي الموسيقى بها، هو البحث الدائم عن رسالة سياسية ما مخفية بين طيات نغمات أعماله، وهم محقون في ذلك. بعض الإشارات مباشرة فتراه يوقع بأحرف اسمه الأولى: ره مي بيمول دو سي (ثيمة DSCH الشهيرة حسب أسماء النغمات باللغة الألمانية)، وهو توقيع موسيقي يمكن تمييزه في حوالي عشرة من أعماله، منها رباعيته الوترية الثامنة (1960) وسيمفونيته العاشرة (1953). وتارة يستعمل لحنا ما معروفا، أويستشهد بعمل من أعماله القديمة مثلما فعل بالاستشهاد بأوبراه "ليدي ماكبث من متسنسك" (1934) التي انتقدتها البرافدا بعد أن تسببت في غضب ستالين سنة 1936 عندما حضر أحد عروضها. وتارة ثالثة يخال للسامع تمييز أحداث معينة مثل طرقات مخابرات لافرنتي بَريّا على الباب أو صوت الطائرات وهي تلقي القنابل وغير ذلك. هذه بالطبع تعتمد على مخيلة المتلقي، تماماً مثل الصورة المتولدة في ذهن القارئ عند قراءة رواية ما، فالاثنان، الموسيقي والروائي، يتركان المستمع / القارئ يجول بخياله في متعة التصور.