لطفية الدليمي
أُظنّه سؤالاً مشروعاً يطرق بالنا في أحايين كثيرة: كيف السبيل إلى تمييز المُجيد البارع في حقل معرفي أو مهني ما عن سواه من الذي يمكن توصيفه بصانع الاعمال العادية؟ الجواب قد يتخذ أنماطاً وأشكالاً عدّة ؛ لكني أحسبُ أنّ واحداً من المعالم الفارقة لكلّ عقل خلّاق هو توفّرُ صاحبه على بصمة مميزة له شبيهة ببصمته الجينية الفريدة في ميزاتها.
كثيرةٌ هي البصمات التي صارت تُقرَنُ بها حياة المرء منّا: ثمة بصمة كاربونية وضوضائية واستهلاكية ورقمية،،، إلخ، وكلّ واحدة من هذه البصمات لها معاييرها الاجرائية الدقيقة المعبّر عنها بصيغ إحتسابية دقيقة. يمكن إضافة البصمة الابداعية أيضاً إلى سلسلة البصمات هذه. من المؤكّد أنّ الحقل الترجمي يضمُّ أسماء سيكون من اليسير عليك أن تعرفها من بصماتها الترجمية.
لستُ أخفي انحيازي أبداً إلى كلّ مبدع يعمل على جبهات معرفية متداخلة ومشتبكة ولايكتفي بنطاق حقله الضيق على النحو الذي طال عهدنا به في عقود سابقة. ليس هذا الامر محض توجّه عقلي أو نزوع ذهني أو ترسيمة نفسية تعمل في سياق قصدي محدّد . الامر أبعد من ذلك. لم يَعُدْ عصرنا يقبلُ الانكفاء في جزر ضيقة معزولة. صار قانوني الحاكم في القراءة، ومنذ مايقاربُ العشر سنوات أو أكثر بقليل، هو البحث عن الأعمال اللامعة التي يجيد مؤلفوها أو مترجموها تحبيب التداخل المعرفي المشتبك للقارئ العربي. لابدّ من الاعتراف بفقر واقعنا العربي في قدرته على قراءة التوجهات المعرفية المتداخلة.
أتابعُ، وبقدر حدود طاقتي المستطاعة، مايُنشَرُ في عالم الترجمة إلى العربية. هذا ولعٌ لديّ بقدر ماهو ضرورة تتيح لي معرفة تضاريس الترجمة والعناصر المؤثرة فيها. إنتبهتُ مؤخراً إلى إسمين وجدتُ فيهما تجسيداً للنهم المعرفي وتلوّناً خلاقاً للاهتمامات الفكرية وعدم الركون إلى لون واحد أو تخصص مهني محدّد. وفّرَتْ لي قراءة الاعمال المترجمة إلى العربية بجهود هذين الاسميْن، والصادرة عن دار المدى، متعة كبرى وفائدة بأعظم مايمكن أن تكون عليه الفائدة المجتناة من قراءة أعمال مترجمة. الاسمان نسائيان، وليس في هذا انحياز جندري من أي نوع. إنها البصمة الابداعية إذ تفرض نفسها وحضورها. لابأس أن أذكّر هنا أنني كتبتُ عن مترجمين رجال بارعين ذوي مقدرة وحنكة، ويصدق عليهم توصيف مترجم المهمات المشتبكة الذي لايقبلُ المكوث في ركن معرفي واحد.
المترجمة الاولى هي الدكتورة رشا صادق، المتخصصة بطب الامراض الجلدية. لو دققنا في قائمة أعمالها المترجمة لوجدنا فيها أعمالاً فلسفية (مثل كتاب عن الطبيعة البشرية للفيلسوف الراحل روجر سكرتون)، وروايات (مثل أين ذهبت برناديت؟، و قضية المانغا المتفجرة، وكتباً في الشأن الثقافي العام (مثل إعترافات قارئة عادية، و التاريخ الثقافي للقباحة)، وكتباً سايكولوجية (مثل الاله ألفا: سايكولوجيا العنف والاضطهاد الديني)، وكتباً علمية مطعّمة بالتاريخ والفلسفة (مثل في البحث عن الزمن).
المترجمة الثانية هي رزان يوسف سلمان. لاأعرف ماالذي تمارسه رزان من عمل مهني، وهو ليس بالامر ذي الاهمية. مايهمُّ هو جهدها الترجمي متنوّع الاهتمامات. نقرأ في قائمة أعمالها المترجمة والمنشورة عن المدى كتباً فلسفية (مثل كيف تكون حراً: دليل قديم للحياة الرواقية)، وروايات (مثل K الصفر للروائي دون ديليللو، والفعلي للروائي سول بيلو) ؛ لكنّ الكتاب المترجم الذي أراه صنعة أستاذ ماهر هو اللانهاية والعقل: علم وفلسفة اللانهاية. إنّه Masterpiece حقاً.
ليس تنوّع الموضوعات المترجمة وتداخلها المعرفي هو الخصيصة الوحيدة التي تميّز هذه الاعمال ؛ بل ثمّة خصائص أخرى جاذبة منها: طريقة صياغة العبارة العربية، وتعهّد العمل المترجم بالرعاية والشروحات المستفيضة التي تضيف له إضاءات مهمّة لفهم القارئ. أنت تشعر في خضمّ هذه القراءات أنّك أمام مترجم ممتلئ يعرف أكثر ممّا هو مكلّفٌ بترجمته.
أذكرُ أنّ الفيزيائي والفيلسوف الراحل جاكوب برونوفسكي، قال بعدما عاش سنوات طوالاً في بريطانيا: حقاً لقد سُعِدْت برفقة العقول المتمدّنة. وها أنا أتبعُ خطى برونوفسكي وأقول: إنّ قراءة أعمال مترجمة مثل هذه التي أشرتُ إليها تجعلني سعيدة لأسباب كثيرة لعلّ من أهمّها أنّ التفاهة لن تستطيع الحلول الكامل محلّ الرصانة والجدية والعمل المنضبط، وأنّ العقل البشري الخلّاق هو أثمنُ ماوُجِد على هذه الارض رغم كلّ الاعلانات المناوئة للعقل والحضارة والتمدّن.