حازم رعد

تتفق الفلسفة المعاصرة على أن العقل فاعلية، وليس جوهراً كما شاع في الفلسفات القديمة، ومنها على سبيل المثال فلسفة أرسطو وفلسفة الكندي وابن سينا، الذين وجدوا في العقل والنفس جواهر مجردة. وعليه لا يكون العقل عقلاً إلا إذا استعملته في حيز الممارسة. لذلك إذا لم تستعمل عقلك، فلن تكون إنسانا عاقلا كما ينقل ذلك سعيد ناشيد.

ولكن العقل الذي هو جوهرٌ بالأساس. فهو مصدر الإلهامات التي تغذي فكر الإنسان بالمادة الأساسية للدهشة والالتفات والتأمل، وهو جوهر مجرد مستقل بذاته، فهو آخر مراحل الإدراكات للنفس في حركتها التطورية في سلم تكاملها “في قوس الصعود”، متخطية الإدراك الحسي والخيالي والوهمي وصولاً للإدراك العقلي الذي يتسم بخصوصية البحث والتدبر والانفعال مع الأفكار. فلا يمكن تصور بناء دون الاتكاء والاستناد على قواعد وأسس تحكم ذلك البناء كذلك الحال في الفاعلية الفكرية للتفكير، فإنها تقف على أسس أولية تشكل الحاضنة والينبوع ومنطلق الانبعاث لا أقل جدلاً على مستوى الالتفات والدهشة والتأمل في الأشياء قبل الخوض فيها بممارسة على أي مستوى من المستويات، ولعل هذه قاعدة عامة لا يحتاج فيها الى إمعان في النقاش والجدل.

نعم من الممكن قبول مقول إن العقل صيرورة وحركة مستمرة في التاريخ يأخذ بالنمو والتطور عبر تلك السيرورة في الزمان والإنسان والظروف المحيطة التي تلقي عليه بالتجارب والخبرات الحياتية المتنوعة، والتي بجميعها تشكل ركاماً يتلقاه العقل، ثم يعكف على تحليله وتقسيمه وتركيبة وإعادة صياغة المفاهيم الكبرى والجزئية من تلك المواد الأولى في العقل التي أوفدها التاريخ والإنسان والتجارب إليه.ولكن من غير المعقول تصور العقل على انه مجرد فاعلية، ونفي الجوهرية عنه وهي بالأساس الصفة الملازمة له وفصله المقوم وهي ما تجعله قائماً بنفسه لا بغيره، وبما أن الاقتصار على الفاعلية دون القول بأنه جوهر، فذلك يعني أن نجعل منه مجرد آلة تضطلع بأعمال محددة، وتقتصر على هذا اللون من النشاط، وإلا فإن للعقل إشتغالات أخرى لعل أهمها النقد الذاتي لذاته، وذلك من قبيل المراجعة التصحيحية لمحتوى الذاكرة والخزين المعلوماتي فيه، فالاستعمال والفاعلية غير الجوهرية وكلاهما فعل يتوفر العقل عليهما، ولا يمكن اقتصار القول بتضمن العقل لإحداهما دون الأخرى.

اختلفت الآراء وتصورات المفكرين والفلاسفة “بحسب اختلاف مرجعياتهم في الإحالة” في تحديد ماهية العقل ورسم حدوده الجامعة المانعة، ولعل أقصى ما استطاعوه هو الإشارة لأحوال العقل وتوصيف مظاهره الإنتاجية أي تعريفه من خلال ما يظهر منه من فاعلية ومدركات، أي كونه قوة من خلالها يدرك الإنسان الأشياء، ويميز بينها وبين الخطأ والصواب، ويبدع القوانين والمفاهيم.

وقد تعود أقدم النظريات التي تناولت مدار البحث الى عصر أفلاطون وتلميذه أرسطو. أما على مستوى التراث الديني فهو زاخر بتوصيف فاعلية هذه القوة المفكرة، ولعله يسبق التصور الفلسفي في الإشارة للعقل وتكويناته ونشاطه.

فلو تعرضنا بشكل موجز لجملة الآراء التي تناولت العقل سنلحظ أنها تتوزع على الشكل التالي:

1 - منهم من يرجع العقل الى انه الروح بلا فرق بينهما.

2 - ومنهم من يراه انه ذات القلب والفؤاد.

3 - وبعضهم يرجعه الى الانسان نفسه لان ما يميز الانسان عن غيره هو العقل ، فهو فصله المقوم له عن سائر العجماوات .

4 - وقيل هو شخصية الانسان منظور اليه بذلك للسمات التي يتحلى فيها عن غيره وتشكل مجموع تلك السمات معالم هويته الذاتية .

5 -وبعضهم ارجعه لمعنى مغاير عما سبق حيث عده وصف لوظيفة الدماغ البشري وهو التفسير المادي للعقل.

7 -وبعضهم جعل مرد تعريف العقل من شؤون علم النفس فلذا نجد من يلتزم هذا الرأي يرادف بين العقل والوعي والوظائف النفسية. وهكذا اختلفت الاراء والتصورات من الأمد البعيد في توصيف العقل واشتغالاته.

ولكن بشكل عام ان العقل هو العنصر الاساسي في الفعل المعرفي والقوة المميزة ومدركة الأشياء والفارقة بينه وبين باقي الكائنات فهو الوصف الذي يفارق به الانسان كل ما عداه وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو المجرد ذاتاً وفعلاً عن المادة والناس متساوون فيه على حد سواء فهو اعدل الأشياء قسمة بين الناس كما يقول ديكارت .

والعقل قوة النفس في طورها المتقدم ونموها المجرد عن المادة، والتي من خلالها يتم تصور المعنى وإدراك حقيقة الأشياء والتمييز بينها وتأليف القضايا وتنظيم نسقها وبه تعرف الأقيسة، وتتم المقارنة بين الأشياء والأفكار وبالعقل يتم إدراك المعاني الكلية وتأليف المركبات الفكرية والمفاهيم.