اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في السعي نحو الاُنْشُدَاه المعماري

في السعي نحو الاُنْشُدَاه المعماري

نشر في: 5 فبراير, 2023: 11:20 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

يتوق بعض المعماريين اليوم لجعل تصاميمهم مثيرة للدهشة وقادرة لاذهال متلقيها: الناظرين اليها ومستخدميها على حدٍ سواء.

وباِجْتِرَاح مثل هذه العمارة يرى اولئك المعماريون بان "مهمتهم" التصميمية وصلت الى مبتغاها وقد حققت هدفها المنشود. لكن نموذج "العمارة المدهشة"، وفق هذا السياق قد لا تراعي كثيرا جملة غايات العمارة التى نعرفها ، ولا تستجيب لمراميها. بيد ان ذلك يُضحّى بهما (غاية العمارة ومراميها) لجهة التأكيد على الهدف الاسمى والوحيد للعمارة الجديدة ببلوغ حالة "الانشداه" البصري، وتحقيق حضور الاذهال!

ليس في الوارد، الآن، بهذه المقالة، اجراء مفاضلة بين مسعى مثل هذة المقاربة المعمارية ومساعي العمارة الآخرى، التى ما انفكت تتوخى اهداف "العمارة الكلاسيكية" وغاياتها. لكننا نود الإشارة الى نهج واضح يتبناه بعض المصممين في المشهد المعماري العالمي اليوم، ينزع الى تفضيل حالة "الاُنْشُدَاه" البصري في منتجهم التصميمي، والتمسك به كنوع من اوجه مقومات وخصائص مقاربتهم المعمارية. في هذا المقام، يعرف الوسط المعماري العالمي ومحبي العمارة ومتابعيها، بان منتج معمار ما بعد الحداثي "فرنك غيهري" (1929) Frank Gehry، هو الاشهر في هذا المجال، المعمار الذي تحدثت يوما عنه، قائلا عن احد اشهر وأبكر تصاميمه " متحف بلباو " (1997) في مدينة بلباو شمال اسبانيا ".. لان حدث عمارة المتحف بدت حافلةً بغرائبية غير مسبوقة، إن كانت من ناحية تنطيق لغة التشكيل التصميمي أم لجهة نوعية المقاربة المعمارية المتفردة الموظفة في المبنى، أم بسبب نوعية الاسلوب الانشائي وطبيعة المواد الأنشائية غير التقليدية المستخدمة في تنفيذ المبنى.؛ وقلت ايضاً في ذلك المقال "... في احدى كتبه التى نالت اهتماماً واسعاً يكتب المعمار العالمي المعروف ومنظر العمارة التفكيكية "بيتر ايزنمان" (1932) Peter Eisenman <.. من أن عمارة ما بعد الحداثة أتت لتقويض نفوذ مفهوم "العمارات" السابقة عليها (بضمنها مفهوم عمارة الحداثة)، التى ظلت تلك العمارات لقرون تحت تأثير أوهام Fictions متخيلة، يجملها المعمار الامريكي ويضعها تحت ثلاثة مسميات وهي : أولاً "وهم التمثيل" Representation ، وثانياً "وهم المنطق" Reason، وثالثاً "وهم التاريخ" History > (المدى البغدادية، 30/05/ 2021 ).

في التصميم الذي نعرض عمارته في هذا المقال، يظل "فرنك غيهري" وفياً لقيم مقاربته التصميمة لناحية حضور الغرائبية غير المسبوقة للشكل المصمم التى تتمظهر في تنطيق اللغة التشكيلة للمبنى، وتوظيف مقاربة متفردة اشتغل عليها المعمار طويلا وباتت من ضمن مقومات خصوصية نهجه المعماري، واخيرا الاستعمالات المبدعة لنوعية الاسلوب التركيبي واستخدام مواده الانشائية غير التقليدية. نحن نتحدث عن مشروع "برج لوما آرل" LUMA Arles Tower في مدينة <آرل> Arles بجنوب فرنسا، والذي افتتح للجمهور في 26 حزيران 2021، واستغرق إنشاؤه مابين 2014 – 2021؛ علما ان اعمال التصميم بدأت سنة 2008.

ومبنى "برج لوما آرل"، هو في الواقع مركز فني/ ثقافي بمساحة تقدر بنحو 15000 مترا مربعا وبارتفاع يصل الى 56 مترا ويحتوي على 12 طابق تتضمن قاعات متنوعة ومتعددة الاغراض وفضاءات ذات طابع عمومي وخاص، تخدم معارض فنية ومسارح وقاعات اجتماع ومكتبة وغرف عمل فنانين ومكاتب وامكنة للاحتفالات بالاضافة الى مطعم ومقهى وفندق، وشرفات مفتوحة عديدة تتوزع على طوابق المبنى. وفي رأي "فرنك غيهري" فان مركز لوما هو تمثيل مادي لما يمكن عليه ان يكون المبنى الثقافي في القرن الواحد والعشرين!

يقع <برج لوما آرال> في اطراف المدينة الفرنسية الحافلة بيئتها المبنية بنماذج معمارية عديدة تعود الى العهدين الروماني القديم والرومانسك. والموقع المختار للمجمع الثقافي الفني شغلته سابقاً ورش صناعية وسكة حديد مهجورة. وفكرة المجمع الثقافي هي من بنات افكار "مايا هوفمان" السويسرية التى ترعرعت في جنوب فرنسا، المرأة الثرية صاحبت الملايين ووريثة احد اغنياء عالم الدواء السويسريين، وهي في نفس الوقت راعية للفنون وجامعة لوحات فنية ومنتجة افلام كما انها تزاول عملها التجاري في مجال الصيدلة والدواء، وقد كلفها "مركز لوما" حوالي 175 مليون دولار <وفقا لمجلة Architectural Record>. (وبالمناسبة فان اسم المركز الفني <لوما> يتألف من الحرفين الاولين لكلا اسميّ طفليّها : لوكاس ومارينا).

تتكون كتلة مبنى المركز الثقافي من اقسام عدة ذات اشكال مختلفة، ثمة منصة Podium بفورم هندسي منتظم تقريبا تؤلف قاعدة لكتلة المركز، تنهض عليها كتلة اسطوانية من الزجاج والفولاذ بقطر 54 متراً وبارتفاع 16 -18 مترا، ويخترق تلك الكتلة الاسطوانية (التى يدعوها غيهري بـ "الطبلة")، جسم ملتوِ ومتجعد بهيئة مثييرة و مميزة وغير منتظمة يصل ارتفاعها الى نحو 56 مترا، مكسوة واجهاته بـ "آجر" فولاذي مقاوم للصدأ (يبلغ عدده حوالي 11000 آجرة فولاذية) مع 53 صندوق زجاجي. وفي داخل فضاءات تلك الكتل والتى تبلغ مساحاتها بنحو 15000 مترا مربعا "تجري" الفعاليات الوظيفية الاساسية للمركز الثقافي. كما يمكن للمرء ان يشاهد في خلفية الكتلة المجعدة شكل هندسي غاية في الانتظام مشغول من الحجر الكلسي يميل لونه الى الاحمرار، وفي داخل احيازه تتواجد سلالم المركز مع مصاعده بالاضافة الى توفير انفاق الخدمات الهندسية (الميكانيكية والكهربائية والصحية).

ينحو فرنك غيهري نحوا واضحا في صياغة لغة مبناه التصميمية، عن طريق تأكيد خصائص مقاربته المعمارية التى عُرف بها. فهو، هنا في "مركز لوما"، يميل الى استخدام "التضاد" بين مفردات التصميم التى اجترحها مع البحث في اصطفاء "فورم" معماري ليس فقد مثيرا في هيئته وإنما فريدا في شكله وغير تقليدي في اسلوب إكساء و!جهاته لتحقيق حضور" الأُنْشُدَاه" لدى متلقي مبناه وا إِبْهارهم. في مركز لوما تتبدى تلك الخصائص التصميمية جلياً، فنرى تناقض حضور هيكل "طبلة" الكتلة الاسطوانية الزجاجية مع كتلة السلالم والمصاعد ذات الشكل الهندسي المنتظم مع جسم كتلة المركز الرئيسية المجعدة لتضيف بعدا مثيرا زائدا لفورم ذلك الجسم المذهل والفريد الذي اجترحه المعمار عبر استخداماته الواسعة لتقنيات البرامج الحاسبوية المعاصرة.

وعلى عكس ما ينادي به "بيتر ايزنمان" (المعمار التفكيكي المعروف الذي اقتبسنا كلماته قبل قليل) في نأي عمارة ما بعد الحداثة عن "وهم" التاريخ والقطيعة معه ، فان "فرنك غيهري" يذهب بجرأة نادرة (و مثيرة ..ايضاً) باتجاه بلاغة تصميمية مبتكرة يستحضر بها "تاريخ" المنطقة التى يصمم لها بالاضافة الى استدعاء خصائص عناصر بيئتها المحيطة. فهو يجادل بان شكل الاسطوانة الزجاجية المختار "للطبلة" في تصميمه، ما هو الا تمثيل لفورم "المدرج" Amphitheatre الروماني الذي لا يبعد كثيرا عن موقع المركز؛ كما إن إصطفاء "الآجر" المعدني المشغول بفولاذ مقاوم للصدأ لتكسية واجهات المبنى المصمم والذي يتلألأ بضياء لافت، يراد منه استحضار <اميج> لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم" (1889) للفنان فنسنت فان كوخ (1853 – 1890) الرسام الانطباعي الشهير الذي رسمها وهو مقيم بالقرب من آرل حيث يرتفع مركز لوما الفني. وبهذا المقاربة المثيرة فان "فرنك غيهري" ليس فقط يؤكد بانه لم يكن قط معمارا "تفكيكياً" (كما يحلو له ان يردد ذلك مراراً وتكراراً في لقاءات صحفية منشورة!)، وإنما هو في "مصالحة" ايضاً .. مع <التاريخ>؛ ذلك التاريخ الذي ينأى التفكيكيون بعيدا عنه معتبرينه "وهماً> خادعا يتعين تجاوزه وحتى محوه من مرجعيات تصاميم عمارة ما بعد الحداثة! وفي هذا الصدد يكتب المعمار <فرنك غيهري"> (اردنا استحضار خصوصية المكان المحلي الحافل بمجموعة من الصخور المميزة التى تجدها في هذة المنطقة، ومن خلال استدعاء لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم" لفنست فان كوخ، مثلما ابتغينا بان يكون شكل الاسطوانة المركزية يحاكي اسلوب مخطط المدرج الروماني"

اثناء حفلة افتتاح المركز في 26 حزيران / يونية 2021 للجمهور عبرت "مايا هوفمان" رئيسة <مؤسسة لوما> LUMA Foundation، التى اضطلعت بمهام تغطية كلف تصميم وتنفيذ المركز الثقافي "برج لوما"، من انها: مايا هوفمان، شخصيا، ساهمت في اعمال التصميم المعماري للمركز عندما قالت "أردت فقط أن أقول بان التصميم خرج مني وليس من المعمار وحده!". ومع ان فرنك غيهري هو الآخر قال باحتشام من ان "..مايا لم تكن مجرد زبون عادي،... لقد تبين انها فنانة رائعة، ولهذا فأني أنظر الى هذا على انه محض تعاون!"؛ ومع هذا يتعين اخذ كلمات المعمار في سياقها "الاطرائي"؛ مثلما ينبغي فهم كلمات مايا هوفمان بكونها نوعا من الاعتداد بالنفس والزهو والخيلاء الملازمة عادة للناس الموسرين والمترفين! ذلك لان المقاربة التصميمية لمركز لوما أرال، والتى توصف بانها ذات قوة حضورية بالغة تنتمي الى ذلك النهج التصميمي الذي لازم اعمال المعمار "فرنك غيهري" منذ امد طويل واستخدم في اجتراح تصاميم ذات خصوصية نادرة منحت نوعا من فرادة لعمارتها ميّزتها عن اعمال عديدة كان الوسط المعماري والمهني متخماً بها!

لقد استطاع "فرنك غيهري" في اجتراحه لعمارة "برج لوما آرال" ان يخلق لنا <صيغة> نادرة من تلك الممارسات التى تُعرّف العمارة بكونها "الفضاء المحصور"؛ صيغة بفورم مدهش يعيد تأثيت البيئة المبنية المحيطة بعدة فنية تحمل مزيجا من الخبرة المهنية والجدارة الحرفية مع الولع الثقافي المترع بذاكرة المكان وشواهده الموؤلة تأويلاً ذكيا ومدهشاً. فأنت عندما تكون في مدينة "آرل" مارا في <بوليفار فكتور هوغو> المحاذي لموقع مركز لوما، لا يمكنك ان تمنع نظرك في ان يتجه نحو ذلك الفورم المثير للبصر .. والبصيرة لجهة غرائبية هيئته المخالفة للمعتاد والمألوف ولناحية قوة تضاد مفرداته التصميمية التى أعطته مزيدا من الفرادة البصرية والبراعة الشكلية! ومع هذا، مع اسثنائية هيئة المركز الثقافي وندرة لغته التصميمية، فان نقاط ضعف فرنك غيهري المعتادة موجودة ايضاً: المساحات الملتوية التى، وفق محرر مجلة Architectural Record ، " .. تبدو غالباً أقل من مثالية لغرضها، في حين أن هذا قد يكون الثمن الحتمي الذي يتعين دفعه في ذلك البرج المجعد"، ويضيف ذلك المحرر (الذي نتفق معه في الكثير من طروحاته)، بان "مخطط الطوابق المصممة، على سبيل المثال، والتى من الصعوبة بمكان ان ينسجم المرء دوماً مع منطق حلولها حيث البحث عن الحمامات يمكن أن يكون ملحمياً، ومن المحتمل أن تفوتك باب بعض المعارض الرئيسية إذا لم تكن منتبهاً!".

.. نعم قد يكون كل ذلك بمثابة الثمن (الغالي؟!) الذي يستوجب دفعه للحصول على مثل تلك اللغة المعمارية المدهشة والفريدة، لكن الامر يبقى صائبا ومطلوبا بضرورة حضور مثل تلك المقاربة المعمارية في البيئة المبنية ..والتمنى، تبعاً لذلك، بدفع "اثمان" ليست..باهضة على كل حال! وللتذكير، في الختام: عندما ظهرت <عمارة متحف بلباو> في المشهد المبني، لاول مرة، فغرت الاوساط المعمارية والثقافية افواههم لدهشة وانشداه ما صمم. وامسى شدّ الرحال الى تلك المدينة الاسبانية الشمالية وتحمّل عناء السفر اليها، بمثابة غاية ..و"حلم" الكثيرين من الناس، منعشة احوال السياحة في تلك المدينة النائية، حتى "استنبط" تعبير <تاثير بلباو> Bilbao Effect، كناية عن ظاهرة الانتعاش الاقتصادي المقترن باستثمار ثقافي متجسدا في نموذج معماري بارع! وهي الظاهرة ذاتها المؤمل تكرارها بوجود "برج لوما آرل" في تلك المدينة الفرنسية الجنوبية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram