اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كـورمـاك مكـارثـي* حياة مثيرة مع الكتابة

كـورمـاك مكـارثـي* حياة مثيرة مع الكتابة

نشر في: 7 فبراير, 2023: 11:01 م

ريتشارد بي. وودوورد

ترجمة : لطفية الدليمي

- القسم الثاني -

ريتشارد بي. وودوورد Richard B. Woodward، الذي إمتدّت معرفته بكورماك مكارثي لأكثر من ثلاثين سنة، يكتبُ عن حبّ مكارثي - الذي لم يفترْ توهجه - للتفكير العلمي،

كما يتناول وودوورد الاسباب التي دفعت مكارثي لنشر روايتين في توقيتيْن متقاربيْن (من أواخر عام 2022، المترجمة) عقب ستة عشر عاماً من الصمت الروائي.

محرّر صفحة (الكتب) في الغارديان

 

العلاقة الحقيقية الوحيدة التي شعرت بها أليشيا في هذا العالم هي علاقتها بأخيها بوبي، وهو روحٌ مضطربة مثلها، وربما كانت هذه العلاقة هي السبب الكامن في معاناتها العقلية، ومعاناة أخيها كذلك.

أليشيا هي شخصية رئيسية كذلك في رواية مكارثي الثانية، المسافر: يشهد قارئ الرواية في المشهد الأول منها أليشيا وهي تعاني أشدّ أنواع هذياناتها في بيت سكني في شيكاغو. تتوفر في الرواية بعضُ عناصر المطاردة والجريمة التي شهدناها في رواية مكارثي السابقة لابلد للمسنّين: تتحطّم طائرة خاصة قرب مدينة باس كريستيان في ولاية لويزيانا، ويتمّ إستئجار بوبي ويسترن، الذي يعمل غوّاص إنقاذ، لكي يسترجع معدّات تسجيل بيانات الرحلة بالاضافة إلى مسافر عاشر لم يعثَرْ على جثته مثلما حصل مع رفقائه التسعة. عندما يخوضُ بوبي في مياه خليج المكسيك يكتشفُ أشياء ذات أهمية لعملاء من جهات مختلفة (ربما تكون ال CIA منها؟ ! ! ) ؛ لذا يصبح بوبي طريدة في كلّ أنحاء أمريكا.

تستدعي العديد من مشاهد روايتي مكارثي الحديثتيْن مشاهد من رواية مكارثي السابقة سوتري Suttree(1979) . الكثير من وقائع روايته المبكّرة جرت تفاصيلها في بلدة نوكسفيل - أو قريباً منها – في ولاية تينيسي – تلك الولاية التي إختارها مكارثي للإقامة بعد فترة قصيرة إنخرط فيها بالقوة الجوية الامريكية، ثمّ غادر لاحقاً صوب الغرب الامريكي في ثمانينات القرن الماضي.

يستذكر مكارثي بكثير من الشغف والمرح سنواته في نوكسفيل، وقد أخبرني مرّة أنّ كلّ أصدقائه كانوا ممّن يستطيبون الانغماس في شتى ألوان المتعة المتاحة ؛ وبرغم ذلك فإنّ البعض منهم كانوا لامعين للغاية ومتعلّمين تعليماً راقياً.

يبدو مكارثي في العادة منكباً على العمل في مشروعات عديدة في الوت ذاته ؛ إذ بعد أن أكمل روايته لابلد للمسنّين عام 2005 أخبر غاري فيسكيتجون (الذي أصبح لاحقاً محرّر أعماله) أنه على وشك إكمال رواية جديدة بشأن غوّاصي الانقاذ في مدينة نيوأورليانز، وسأله هل يفضّل هذه الرواية بين روايات عدّة كان يعمل عليها. يقول فيسكيتجون أنّ جوابه كان: « من الحماقة أن يفضّل المحرّر عملاً لمكارثي دون سواه. تلك حماقة مؤكّدة «.

مكارثي ليس كاتباً مسكوناً بالكتابة عن النوازع النفسية بالمعنى التقليدي الشائع ؛ فهو لايقدّمُ لشخصياته الروائية في العادة حكايات مسترسلة تكشف خفايا خلفياتهم الثقافية والمجتمعية والعائلية، ولايوضّحُ أياً من الدوافع المحرّكة لسلوكهم الحالي (كما يشهده القارئ في روايات مكارثي) . هم ببساطة يقومون بأفعال ويتلقون ردود أفعال عليها. يكتفي مكارثي بأن يصف (وبطريقته المعهودة في الاقتصاد السردي والتي تشوبها أحياناً نزعة خطابية عالية النبرة أو بارعة أو مقتضبة) مايقوم به شخوصُ رواياته من أفعال ومايتحدّثون به من كلام في العالم المادي الذي يعيشون فيه، ويوضّح أيضاً أشكال الخطر التي يواجهونها، وكذلك النتائج الخطيرة الناجمة عن محاولة البشر البقاء على قيد الحياة.

رواية المسافر هي استثناء من قواعد مكارثي في الكتابة الروائية ؛ فهو يقدّمُ فيها تواريخ عائلية مسهبة لكلّ من أليشيا وأخيها بوبي.

مكارثي ليس من المتفائلين بشأن حظوظه الشخصية في نجاح علاقاته مع المرأة (رغم أنه تزوّج ثلاثاُ ! ! ) ، وكذلك بشأن التقدّم الاجتماعي. لم يحصل أن سألته يوماً فيما لو كان يعتقدُ أنّ منحنى التطوّر الاخلاقي الكوني يميل تجاه العدالة. أظنّ أنني أعرف جوابه: « الشر ليس له خطة بديلة «، هذا مايقوله أحد أصدقاء بوبي في رواية المسافر، ثمّ يردف قائلاً « الشر ببساطة عاجز عن قبول الفشل «.

أبهج مكارثي نفسه على مدى العشرين سنة الماضية بأن « يكون قريباً من بعض أكثر البشر ذكاء على هذا الكوكب « في معهد سانتا في. عام 2009، وكبادرة تنمّ عن دعم مكارثي لرسالة المعهد وشعوره بالامتنان لأصدقائه في هذا المعهد لقبولهم مكوثه الطويل فيه، تبرّع مكارثي للمعهد بالقيمة الكاملة لآلته الكاتبة اليدوية نوع Olivetti Lettera 32 التي بيعت في مزاد كريستي بمبلغ 254, 500 دولاراً.

فاز مكارثي عام 1981 بزمالة مؤسسة ماك آرثر بناءً على توصيات من الكاتب سول بيلو Saul Bellowوآخرين، وهذا الفوز هو ما أبدل حظوظه في الحياة. وصف مكارثي تجربة فوزه بتلك الزمالة بأنها « التجربة الأكثر تأثيراً في حياتي « ؛ فقد وفّرت إجتماعات مؤسسة ماك آرثر السنوية لمكارثي فرصة اللقاء بطائفة واسعة من العلماء الذين إكتفى بالقراءة عنهم وحسب قبل إنضمامه للمؤسسة، وقد أصبح الكثير من هؤلاء العلماء أصدقاءه الخلّص لوقت طويل في حياته اللاحقة. لايتعب مكارثي أبداً – وهو الحكّاء الذي لايملّ من مطاردة الحكايات - من متابعة المناشط العقلية التي تمارسها العقول العظيمة في عالمنا، وبخاصة فيزيائيو القرن العشرين على شاكلة روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer و ريتشارد فاينمان Richard Feynman، والاثنان من الفيزيائيين الذين عملوا في مشروع لوس آلاموس لتطوير القنبلة الذرية.

السنوات التي قضاها مكارثي مقيماً في معهد سانتا في ألهمته الكثير من التأملات بشأن المسارات التي كان من المحتمل أن تتخذها حياته لاحقاً. أخبرني مكارثي مرّة بهذا الشأن: « كان ثمة الكثير من الأمور التي أستطيع فعلها. توفّر لي فهمٌ جيّد لما كان يدور في أروقة المعهد من نقاشات فكرية وتقنية ذات مستوى عالٍ ؛ لكن دعني أصدقك القول بأنني لاأجد نفسي عالِماً. لاأفكّر كما يفعل العلماء. كان يمكن أن أصبح فيزيائياً ؛ لكن ليس فيزيائياً ذا شهرة عالمية. كلّ ماأردته هو أن أفعل أي شيء بطريقة جيدة بغضّ النظر عمّا يكون ذلك الشيء: فيزيائي أو كاتب روائي أو كاتب سيناريوهات للافلام السينمائية،،،، «.

مكارثي اليوم في التاسعة والثمانين من عمره، وهاتان الروايتان ستكونان على الأرجح آخر أعماله. الموت ليس بالموضوع الذي يتجنّبه مكارثي ويشيح بناظريه بعيداً عنه في رواياته أو في محادثاته ؛ بل الحقيقة هي أنه يقيسُ مقدرة الكُتّاب في مهنتهم الكتابية بمدى العمق الذي يتناولون به موضوعة الموت. يقدّمُ لنا مكارثي في روايتيه الأخيرتين شواهد على أنه قضى الكثير من الوقت يتفكّرُ في الكيفية التي ستكون عليها خاتمة حياته: « لاأظنّ ثمة طريقة نتحضّر بها لمواجهة الموت «، هذا ماتقوله أليشيا في (ستيلا ماريس) ثم تردف « ليس من فائدة تطوّرية لأن تكون بحال طيب عند الاحتضار. لمن ستترك هذا الحال الطيب؟ الشيء الاكثر أهميةالذي تتعامل معه في حياتك (أعني الزمن) هو أمرٌ ثابت بمعنى أنك كلّما سعيتَ حثيثاً لزيادة مناسيب مخزوناتك منه فإنّك إنما ستحوز مقادير أقلّ منه. خمرة الحياة تنسابُ منك على الارض وعليك أن تسرع في قطف مباهجها ؛ لكنّ هذه السرعة ذاتها هي التي تستهلك ماتسعى للحفاظ عليه. ليس بمستطاعك أن تتعامل مع ما وُجِدتَ على هذه الارض لكي تتعامل معه «.

جاء موت غيلمان عام 2019 ليكون خسارة قاسية لمكارثي رغم أنها وفّرت له الدافعية المناسبة التي كان يحتاجها لإكمال أعماله التي تركها غير منجزة لوقت طويل. روايتا مكارثي الاخيرتان تبعثان القشعريرة في نفس القارئ فضلاً عن أنهما ذات أجواء كئيبة (قارئو مكارثي لايتوقّعون أقلّ من هذا ! ! ) ؛ لكنّ مكارثي يبدو راضياً سعيداً في تخيّل أسوأ مايمكن أن يحدث لشخوص رواياته وتوصيف أشكال فشلهم مستعيناً بموسيقاه النثرية المفعمة بالحيوية. في كلّ الاحوال فإنّ الانقراض المستقبلي للجنس البشري سيجعل الميتات الفردية – مثل موت مكارثي ذاته وكذلك موت صديقه غيلمان - أمراً غير ذي أهمية.

« عندما تزول كلّ آثار وجودنا البشري ؛ فمَنْ سيبقى من البشر لكي يحسبَ هذا الزوال الكامل مأساة؟ «، هذا ماتسأله أليشيا في إحدى روايتي مكارثي الاخيرتيْن.

* الموضوع منشور في صحيفة (الغارديان) بتأريخ 22 أكتوبر (تشرين أول) 2022.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram