TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: بَدّاي الفايز

مرساة: بَدّاي الفايز

نشر في: 7 فبراير, 2023: 11:02 م

 حيدر المحسن

أنجزت هذه المادة على عُجالة لأن زلزالا مدمّرا قضى في الأمس على ألوف الأنفس في بلدين مجاورين: سوريا وتركيا، وكلّنا في حال سؤال ولهفة عن الجرحى والناجين بلا مأوى، أما أولئك الذين انتقلوا إلى دار البقاء فلا نستطيع إلّا أن نقول لأحبّتهم إنه قضاء وقدر عظيم، ولم يُخلق البشر الذين بإمكانهم سؤال السماءعن قرارها،

وكذلك أعماق الأرض. هل يستطيع إنسان محاربة الشمس أو القمر، أو حتى مقاومة رفيف نسمة تعبر في الجوّ؟ وفي الأرض تعيش ممالك النمل الأبيض والأسود والأحمر، وتنمو فيها جذور أشجار النخل والتين والتوت. هل يقدر أيّ من هذه الكائنات الاحتجاج على الأرض إن هي انشقّت أو اهتزّتْ ورَبَتْ؟ أحفظُ عن ظهر قلبٍ أبياتا للشاعر المصري أمل دنقل:

«آه ما أقسى الجدار / عندما ينهض في وجه الشروق / ربما ننفق كلّ العمر. . كي نثقبَ ثغرهْ / ليمرّ النورُ للأجيالِ. . مرّهْ /. . . . . . . / ربما لو لم يكن هذا الجدار / ما عرفنا قيمةَ الضوء الطليق".

هل يأخذ بنو البشر من الزلازل فكرة تدلّهم على ما هم فيه من نعمة السلم والأمان، كي يتجنّبوا البحث عن أسباب التشاحن والتقاتل فيما بينهم؟ وكلّما كبُرَ رأس بني آدم بواسطة العلم والفِكر والفنّ، كلما ازدادت قوّة تدمير السلاح الذي يحارب به أعداءه وفي باله النصر وحدَه، وهذا يعني قتل وتشويه وتشريد ملايين الناس المساكين الذين يشبه الواحد منهم زهرة يانعة، أو فراشة أو نحلة تصنع الدواء له والعسل. . . إن الآلام التي يكابدها المهزومون في الحرب تعطيهم سحرا آخر، كأنهم رفعوا راية النصر بدلا من الخسارة. مَنْ هو القائل: «هنالك شعور بالحزن بعد الهزيمة، وهنالك شعور أكبر بالحزن بعد الانتصار»؟

فلّاح يعيش في الريف اسمه (بدّاي) ولقّبته الجماهير "بالفايز» لأنه فاز بفِعل الخير وعلا مقامه فوقهم، وصارت حياته حكاية. . .

كان له عدوّ يريد الثأر منه لأنه قتل أخاه، وقضى سنواته وهو يلاحقه، إلى أن حانت ساعة اللقاء بين الاثنين. كان النهر قد فاض وعلا على البيوت، وكان غريمه يجاهد أن ينقذ زوجته وعياله من الغرق، وظهر له (بدّاي) حاملا خنجره، ويطلب القصاص. رمى الرجل ابنته على الأرض وراح يبحث عن سلاحه، لكنّ (بدّاي) كان أسرع، واستقرّ خنجره بثبات على رقبة عدوّه الذي لم يتبيّنه لأنه كان ملثّما، وظنّه أحد اللصوص الذين يسرقون البيوت المنكوبة. نزع الفلّاح لثامه، وعرفه الرجل حالا وازداد رعبا، لكن ردّة فعل الأول كانت غير متوقعة: أعاد خنجره إلى غمده، وتناول الطفلة من الأرض وكانت تصرخ، وظلّ يعاونه في إنقاذ عياله وأثاث بيته، ثم ودّعه أخيرا لمّا استقرّ على اليابسة، قائلا: «اذهب الآن، ولكن لا تنس أن لك ساعة أخرى! ". لم يحتمل الفلّاح مشاعر الحزن التي صاحبت مشهد انتصاره، والخذلان الذي شاهده لدى عدوّه، وتحرّكت لديه إذّاك صبوةٌ لكي يكون شجاعا ويُقدم على فعل الخير العظيم. يقول بوذا: "خير من ألف عام تمضي مع العطالة والضعف يوم واحد يمضيه المرء شجاعا".

«وآب الفلّاح إلى قبيلته ساكنا هادئا، فخورا بالفعلة التي لم يفعل مثلها أحد قبله، إذ أنجد أسرة حين لم يكن له من إنجادها بد، واستحيا لأجلها، ولو إلى حين، نفسا ما كان لها إلا أن تموت".

نقلتُ السطرين الأخيرين في المقالة من قصّة منشورة في 15 يوليو سنة 1935 في صحيفة الرسالة بإمضاء (محمود أحمد السيّد) ، أحد روّاد فنّ السرد في العراق، ويعدّه النقّاد مؤسّس هذا الفنّ، وليس الغرض هنا دراسة الجهد المبذول في القصّة، ومناقشة الواقع السردي (الفنّي) فيها، والذي من المفروض أن يستمرّ ليتردّد صداه في المستقبل. الأمر يحتاج إلى دراسة في باب مستقلّ بالطبع، وأكتفي في النهاية برؤية صور من قاموا بفعل بدّاي الفايز في خيالي أثناء الزلزال الذي حدث اليوم في البلدين المنكوبين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram