TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الخذلان الجمعي للقائد والجماعة.. خيبات الأمل المتكررة وآليات المواجهة

الخذلان الجمعي للقائد والجماعة.. خيبات الأمل المتكررة وآليات المواجهة

نشر في: 11 فبراير, 2023: 10:18 م

علي عبد الرحيم صالح

تعد الجماعة السند الذي يتكأ عليه الأفراد في اشباع حاجاتهم وشعورهم بالأمن والحماية، فهي تعد قاعدة أمان ينطلقون في ضوئها نحو تحقيق هويتهم، وتحقيق أهدافهم وشعورهم بالتفوق، وهم في الوقت نفسه يعاضدونها، ويحافظون على تمسكها، ويحمونها في جميع الأوقات،

لذا فأن العلاقة بين الجماعة وأعضائها متبادلة ومستمرة، لكونهما يغذيان بعضهم البعض بالقوة والدعم والايجابية. ولكن ماذا لو شعر أعضاء الجماعة بـالخذلان؟ كيف سيؤثر هذا الشعور عليهم؟ وبأي طريقة سينظرون بها إلى هويتهم الاجتماعية؟ وما هي الصيغة التي ستتحول بها صورة الجماعة لديهم؟.

إن هذه التساؤلات ظهرت في الآونة ضمن تيار علم النفس الاجتماعي؟ الذي بحث مشاعر الخذلان الجمعية لدى الجماعات الكبيرة (مثل الدول والقوميات والطوائف الدينية)، والجماعات الصغيرة (مثل الأندية الرياضية والنقابات والجمعيات والشركات)، إذ حاول علماء النفس الاجتماعي، معرفة ماذا سيصب الجماعة لو شعر أفرادها بالخذلان؟ هل سيؤدي ذلك إلى تفكك الجماعة، وقيام أعضائها بالحراك نحو جماعات أخرى، أم أن ذلك سيحفزهم نحو إعادة هيكلة الجماعة من جديد، حتى تستطيع أن تتغلب على أزماتها، وتقوى من جديد؟

الخذلان الجمعي

بداية لابد أن نفهم مفهوم الخذلان الجمعي حتى نستطيع بعدها أن نكون على وعي بطبيعة هذا الانفعال وبنيته المعرفية والوجدانية والسلوكية التي تشكله، وأن ندرك كيف يشعر به أعضاء الجماعة ويؤثر عليهم في حياتهم الاجتماعية. إن الخذلان الجمعي شعور قاس ومؤلم، يؤدي إلى إحساس أعضاء الجماعة بخيبة الأمل، وفقدان الشعور بدعم الجماعة وقوتها، لكونها خذلتهم، وأحبطت مساعيهم وأهدافهم وأمانيهم الشخصية والجمعية. هذا الشعور يصبح أقوى عندما يحمل الأفراد أهدافا وأحلاما ايجابية، يرغبون في تحقيقها بمساندة جماعتهم، فوجد «هيث وجوردن،1997» أن خيبة الأمل تصبح أقوى عندما يعلق الأفراد أمالا كبيرة على الجماعة، فتعمل على اهتزاز صورتها، وشعورهم بالأسف اتجاهها والأسى عليها، وهو ما يؤثر على أدائهم، والحفاظ على جماعتهم، وحماسهم في رؤية جماعتهم متفوقة على الجماعات الأخرى.

يتكون هذا الشعور بالخذلان وفقا لنظرية "ديفيد بيل" من ثلاث مكونات أساسية، تتمثل بـ (الاحباط) وهو يأتي عندما يواجه عضو الجماعة عائقا كبيرا أمام تحقيق أهدافه، و(الأسف) يظهر عندما لا تتسق توقعات المنفعة مع الكلفة التي قدمها الفرد للجماعة، و(الاستياء) شعور الأفراد بالامتعاض وعدم الرضا على جماعتهم بسبب النتائج السلبية التي حصلوا عليها سابقا.

لذلك نجد أن هذه الانفعالات تجعل الأفراد يعيدون حساب عضويتهم في الجماعة مرة ثانية عبر إعادة تقييم الكلفة (ما يقدمه الأعضاء من ولاء وجهد وتبرعات) والمنفعة التي يحصلون عليها (الشعور بالقوة والحماية والدعم المادي والاجتماعي من الجماعة). وتظهر هذه الحسابات لدى الأفراد في الجماعات المختلفة، فعلى سبيل المثال قد يهاجر العديد من أعضاء الأقليات إلى بلدان أخرى عندما تخذلهم الأغلبية التي يعيشون معها (مثل المسيحيين والايزيديين في العراق).

خيبة الأمل القائمة على العضوية

تتمثل خيبة الأمل القائمة على العضوية بشعور أفراد الجماعة أنهم ينتمون إلى جماعة غير مميزة، بمعنى أن هذه العضوية غير قادرة على تلبية طموحات الأعضاء وحاجاتهم مقايسة بالجماعات الأخرى. وهو ما يجعل الفرد يرى أن عضويته الاجتماعية غير مجدية بالنسبة له، ولا تحقق أماله وأهدافه، ولا تمنحه هوية اجتماعية إيجابية يستطيع في ضوئها الشعور بالفخر والهيبة والتفوق. فتخلخل مشاعر العضوية قد يؤدي إلى تفكير الأفراد بترك الجماعة، لكون العضوية بحسب نتائج دراسة ويلكون وزملائه Wilco et al.1994 أصبحت مصدرا للضغط النفسي والشعور بفقدان قاعدة الأمان التي يتكئون عليها في التعامل مع مشكلاتهم وأزماتهم الشخصية والاجتماعية، وهو ما يجعلهم يشعرون بالاكتئاب وسلبية الهوية، وقد يحتاجون فترة طويلة للتعافي منها.

رغم هذا فأن استجابات الأفراد عند الشعور بالخذلان الجمعي تختلف بين بعضهم البعض ، فتذكر دراسة جيل وبراوس(Gill & Prowse,2010) أن هناك بعض الأفراد قد يواجهون شعورهم بالخذلان في ضوء توجيه العدوان إلى أعضاء الجماعة الآخرين، وبعضهم قد يواجهه في ضوء التقليل من التوقعات ومشاعر الخسارة التي تعرضوا لها حتى يستطيعون البقاء في الجماعة، في حين نجد أن أخرين يعملون على ترك جماعتهم والانتساب إلى جماعة أكثر قوة.

خذلان القائد

عادة ما يتجرع قائد الجماعة أشد مشاعر الخذلان مرارة وخيبة، لاسيما عندما يكون طموحا، ومنجزا، ووطنيا، ويمتلك دافعية قوية للارتقاء بمستوى جماعته. إذ يؤدي خذلان الجماعة للقائد بسحق أحلامه ومشاريعه الطموحة، وخلق فجوة كبيرة بين تطلعاته في تطوير الجماعة وبين الأعضاء الأخرين. إن هذا الخذلان سرعان ما يؤدي إلى تحطيم القيادة أو تغيير مسارها في العمل (خلق قيادة متشددة وعنيفة)، كما يؤثر على إدارتها بصورة فاعلة، وقد يصل الأمر إلى ترك القائد لجماعته، وإصابتها بالتفكك والانحلال. هذا الأمر لا ينسحب على الجماعة فحسب، وإنما يمتد إلى شخصية القائد، إذ يؤدي الخذلان الجمعي إلى معاناة القائد وشعوره بالوحدة، والاكتئاب، والعجز، وفقدان القدرة على التغيير، والرغبة في الانتحار. على سبيل المثال قام رئيس الوزراء الفرنسي السابق بيير بيرجوفوي بالانتحار بعد فشله في الانتخابات، وخذلانه من قبل جماهيره وأعضاء حزبه.

خذلان الجماعة

تعاني شعوبنا العربية من استمرار خبرات الخذلان لأمانيها وطموحاتها ورغبتها في التطوير، فما أن تستولي قيادة ما على الحكم، حتى تسلب مفاصل الدولة وثرواتها ومؤسساتها، ومحاولة توظيفها لصالحها الخاص، والاحزاب المواليه إليها. وتعد أنظمة الحكم التي كانت قبل الربيع العربي وبعده دليلا على ذلك. ويتم عادة خذلان الجماعة عن طريق خنق آمالها بالتغيير، والاستمتاع بحقها في الحياة، والتعبير عن أفكارها وقواها الخلاقة. تلجأ هذه الأنظمة عادة إلى استعمال القوة والتخويف والخداع من أجل السيطرة على وعي الجماهير، وتزويدها بآمال زائفة، وأوهام وخيالات طوباوية بأن القيادة ستحقق لشعبها كافة متطلبات العيش والراحة والكرامة. إلا أنه بمرور الوقت يكتشف معظم أعضاء الجماعة أنهم يعيشون في خدعة كبيرة تغلفها مسميات كبيرة وبراقة مثل الديمقراطية والحرية والدولة المدنية... وغيرها. لذلك تعاني هذه الشعوب من ويلات وخيبات وصدمات متكررة، تجعل لدى اعضاء الجماعة استجابات عاطفية واجتماعية مشتركة، تتضمن غالبا الشعور بالعجز، واليأس من المستقبل، والرضا بالقضاء والقدر، والخضوع للواقع، وعدم الرغبة في تغيير حياتهم الاجتماعية والسياسية.

إدارة الخذلان

في ضوء ما سبق نجد أن خبرة الخذلان تترك أثارا عميقة في شخصية القائد أو روح الجماعة، قد تصل إلى درجة فقدان الثقة الاجتماعية، وفقدان قيمة العمل الجماعي والمعنى من الحياة. وبما أن التعافي من هذه المشاعر يحتاج إلى مدة زمنية طويلة، فأنه لابد من تزويد أعضاء الجماعة بمجموعة من المهارات والقدرات التي تساعدهم على تجاوز المحن، لاسيما في أوقات الخسارة والحرب والانتكاسات الاقتصادية المريرة؛ فالتزود بهذه المهارات يساعد الجماعة في الحفاظ على نسيجها الاجتماعي بدلا من القاء اعضائها اللوم على بعضهم البعض، أو عزو المسؤولية إلى عدو خارجي وهمي أو قوة غيبية حددت لهم هذا المصير.

إن هذه المهارات والقدرات يتم تقديمها حاليا عبر مجموعة من البرامج النفسية، وورش العمل والمحاضرات التدريبية تحت مسمى (إدارة الخذلان)، هدفها مساعدة قادة المجتمع، وأبناء المجتمع، والأقليات، والعاملين في المؤسسات والمنظمات الحكومية والمدنية على مواجهة ضعف الجماعة، وتمكينهم من حل الأزمات الاجتماعية والسياسية، والمساهمة في التغلب عليها، ودعم الجماعة من أجل أن تنهض من جديد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram