TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: إن شاء الله العراقية

قناديل: إن شاء الله العراقية

نشر في: 11 فبراير, 2023: 11:07 م

 لطفية الدليمي

كثيرةٌ هي الأحيان التي يعمدُ فيها العراقيون (وحتى العرب) إلى تكرار عبارة (إن شاء الله) في أحاديثهم. قد تكون هذه الظاهرة إنعكاساً لثقافة جمعية تُعلي شأن التسليم بالمشيئة الإلهية التي تتعالى على كلّ خيارات البشر وترتيباتهم الدنيوية وإن كنتُ أميلُ إلى إعتبارها نمطاً فلكلورياً غالباً.

كثيرٌ ممّن تجري عبارة (إن شاء الله) على ألسنتهم ليسوا ممّن عُرِف عنهم المغالاة في الورع والتقوى حتى لو كانت تلك المغالاة مظهرية الشكل لاتلمس شغاف القلب أو دخائل الروح. ربما التسويغ النفسي الأقرب لهذه الظاهرة أنّك عندما تقول (إن شاء الله) فأنت تميلُ لجعل سامعك يقتنعُ بوعودك؛ وهل بَعْدَ إرادة الله التي لارادّ لها مِنْ إرادة؟ لكنّ وراء العبارات السائدة تفاصيل وتسويغاتٍ ليس من الملائم إهمالها وغضّ الطرف عنها.

قرأتُ مرّة في أحد الكتب المنشورة (قد يكون كتاب "عام قضيته في العراق" لبول بريمر الذي عمل حاكماً مدنياً لسلطة الائتلاف المؤقتة في العراق) عبارة ينصح فيها أحد المستشارين الامريكيين نظيراً لاحقاً له بالنصيحة التالية: كلّما سمعتَ عراقياً يقول عبارة "إن شاء الله" فاعلم أنه يعني التسويف والمماطلة. لن يُنجَزَ أيُّ فعلٍ يأتي عقب تلك العبارة. تذكّرْ هذا جيداً !!

نعرفُ جميعاً أنّ الأمريكيين قوة إحتلالية تسبّبت في نتائج كارثية عاناها – وسيظلّ يعانيها لأمد بعيد – كلٌّ من العراق والمنطقة الشرق أوسطية؛ لكنّ هذا لايعني صرف النظر عن دراسة آرائهم التي عرضوها في كتب منشورة. لايمكنُ أن نتغافل حقيقة أنّ كثيراً من تفاصيل الحالة العراقية إنما عرفناها بكيفية أكاديمية هادئة بوساطةد العديد من المؤلفات التي وضعها كُتّابٌ، سياسيون أو أكاديميون، بريطانيون في الاساس ثم يليهم الألمان وآخرون، وليست كتابات المس بِلْ أو السفير الالماني غروبا بعيدة عنّا.

سيقول كثيرون أنّ العراقيين شعبٌ متديّنٌ؛ لذا من الطبيعي أن يوظّف عبارات تعني التسليم الكامل بمشيئة الله في أحاديثه. المسألة ليست على هذه الشاكلة. الخطل يأتي من خلط الديني بالدنيوي، وتوظيف الديني توظيفاً شخصياً لخدمة مآرب خاصة. قد نقبلُ بالفلكلور الشعبي ونحسبه نمطاً سائداً لاضرر فيه ؛ لكنّ الضرر كلّه يأتي من سياسيين يستمرئون عبارة (إن شاء الله) التي لاتكاد تسقط من ألسنتهم ونحنُ نعرفهم مراوغين كاذبين تكشف أفعالهم ومنجزاتهم (الوهمية) عن مدى استهانتهم بِـ (الله) الذي يدّعون أنهم لايفعلون سوى مشيئته.

تابعتُ قبل بضعة أيام وثائقياً عن المستشارة الالمانية السابقة (أنجيلا ميركل). نعرفُ أنها إبنةٌ لقسّ بروتستانتي؛ لذا نشأت خاضعة لاعتبارات أخلاقية صارمة منها النزاهة والاعتماد المطلق على الذات وعدم المماطلة أو التسويف أو تأجيل الأعمال. تقول إحدى مساعداتها في المستشارية الالمانية: لم أسمعها يوماً تقول دعونا نؤجلْ هذا العمل للغد حتى لو تجاوز الوقت منتصف الليل. نعرفُ أيضاً أنّ ميركل إنضمّت للحزب الديمقراطي المسيحي؛ لكنّ الصفة «المسيحية» هنا تعني نسقاً ثقافياً مدعوماً بالاخلاقيات المسيحية (البروتستانتية) الصارمة وليس توسلاً بألاعيب لاهوتية. إنعكست هذه الاخلاقيات في أعمال ميركل وأدائها ومنها على وجه التخصيص مافعلته إبان أزمة الديون اليونانية، ومافعلته إزاء فتح الحدود الالمانية أمام السيل المليوني من المهاجرين الاغراب. ثمة موضعٌ في الوثائقي تسأل فيه صانعته ميركل: ألن تتوقي إلى أيام المستشارية بعد مغادرتها؟ فتجيبها ميركل بالقول: هناك عبارة في العهد القديم تقول « يوجد وقتٌ لكلّ شيء « !!

ثقيلٌ على القلب والروح أن يغادر المرء عالم ميركل ليخوض في مخاضة السياسيين العراقيين. نحنُ هنا إزاء صور متقاطعة وقيم متخالفة وثقافات ليس بينها من مناطق مشتبكة. تابعتُ خلال الايام السابقة حوارات بشأن أزمة الدينار العراقي أمام الدولار، ولم تكن قليلةً تلك الحوارات التي أبدى فيها بعض المتحاورين إمتعاضهم من العراقيين بسبب تشاؤمهم. يقول بعضهم: لماذا لانكون متفائلين؟ إن شاء الله ستنتهي الازمة وسيعود الدينار أقوى مما كان في مدّة أقصاها ثلاثة أشهر من اليوم. هكذا يصوّرون الامر وكأنه خلل نفسي في الشعب العراقي وليس نتاج أفعالٍ لإدارة سياسية ومالية خائبة.

السياسيون العراقيون مجبولون على اللعب والمراوغة، وهم يرون في هذا الامر شطارة سياسية وأعلى أشكال البراغماتية الممكنة. لاتكاد مفردة (البراغماتية) تغادر ألسنتهم حتى ليكاد المرء يقتنعُ أنّ (ميكيافيللي) ذاته تولّى أمر رعايتهم وتنشئتهم في مدرسته الخاصة. وصفت إحدى النساء زوجها في فديو منشور بأنه (بارغماتي، مناور شرس). حتى البراغماتية صارت بارغماتية على ألسنة بعضهم وبعضهنّ.

السياسة ليست كذباً واحتيالاً مكشوفاً بقدر ماهي توظيفٌ ذكي لإمكانات الدولة، الخشنة والناعمة. عندما تسمعُ السياسي العراقي فأنت تسمعُ رغوة كلام مفكّك ناشئ عن نوايا سيئة وكذب مقصود. السياسة تصنعها الامكانات لاالرغبات، ويجب تطويع الامكانات المتاحة قدر الامكان لتتماشى مع الرغبات الوطنية المشروعة. أموال العراق محمية بقرار رئاسي أمريكي في البنك الفدرالي الامريكي، ولو شاء الامريكان حجب الدولار عن العراق ففي وسعهم خنق العراق إقتصادياً ومالياً ولن يستطيع أي سياسي عراقي التفوّه بكلمة واحدة ؛ فعلامَ هذه الاكاذيب؟

كلّما سمعتَ سياسياً عراقياً أو واحداً من مقرّبيه أو بطانته يقول: (إن شاء الله) فاعلم إنه يكذب ويماطل ويراوغ، وكلّ مايبتغيه من وراء ذلك هو دفعُ المشكلة إلى الامام لعلّ الناس تنسى أو لعلّ الفرج يأتي من بعد شدّة، ومن حيث لايحتسب أحد.

يعيش العراقيون زمناً رديئاً - زمناً أبتلي فيه العراق بسياسيين من هذا الصنف الذي يرحّلُ مشاكل العراق الدنيوية إلى الغيب ليضعها على عاتق الله.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كمال يلدو

    شكرا جزيلاً لهذه الاضاءة الرائعة والرحلة الجميلة في عالم المنطق والحقائق .

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram