حازم رعد
من الخصوصيات التي ينعم بها العقل انه يصنع نفسه وينمذج لها محتوى “بمعنى انه يعيد انتاج نفسه” ويحولها “من مرحلة الى اخرى اكثر تطوراً وتميزاً” وذلك عندما يصنع ادواته الخاصة كتقنيات لتفحص الاشياء والاحداث والكشف عنها وفهمها وبالتالي ابداع منظومة معلوماتية جديدة لم تكن موجودة من ذي قبل من خلال ممارسة عمليات التأمل والتفكير وتمرين العقل على سبر اغوار الاشياء والكشف عن مجاهيلها يعبر الفيلسوف الانكليزي جون لو عن هذا المعنى بقوله (بالنسبة للعقل الممارسة تجعله ماهو عليه ومعظم حالات الامتياز تلك التي ينظر اليها على انها هبة من الطبيعة يتبين عند تفحصها بدقة انها نتاج الممارسة).
فينتقل العقل بعد ذلك الى امكانية معرفة جديدة وموضوع علم اخر هو اساساً نتاج حركته السابقة بأدواته التي بلورها وفق ضروف خاصة وتاريخية محدودة مشكلة من “وعي عصرها وثقافة سائدة” فليس ذهن الانسان حقيقةً سوى مجموع مدخولاته والتقاطاته عن الواقع وبواسطة الحسية وتنميتها بالتفكر والتأمل.
وتستمر هذة الجدلية بنفس الوتيرة الحيوية المتطورة للعقلانية لتفصح عن ميادين اخرى للمعرفة والخبرة التجريبية المستحدثة محايثة للعقل وتحليلاته ونقده اخذة بعين الاعتبار اللغة التي تشكل خطاب العقل وتفرض علية قوالب لغوية خاصة للتسويق وكذلك الحيز الثقافي التاريخي المحيط الذي يضغط على العقل ويحمله رواه وتصوراته وفاعليته السائدة في لحظته الحاضرة ووجودة الموضوعي.
فالعقل هو القدرة على ادراك الاشياء والتمييز بينها وتحليلها طبقاً للتاريخ الذي يكون فيه بما يحمله ذلك التاريخ من ثقافة ومدرك اجتماعي عام ويتطور بتطور الانسان عبر تاريخة المستمر.
ومن جهة ثانية ان هذا التطور اظهر مسار جديد في جدلية نمو العقل وتطوره فقد احدث العقل الذاتي ثورة كبرى على ما سلفة من احتكار وهيمنة تفرض تأثيراتها على الانسان تمثلت في العقل القروسطي التبريري (الكهنوتي ممزوجاً بمبادئ فلسفية اورسطية) والذي هيمن على الفكر والطبيعة وتفسيراتهما وتوجيه بوصلة الانسان في اتجاهات معينة ومحددة قبلياً، وجعل “العقل الذاتي” من الذات البشرية بوصفها مستقلة ومفارقة لما يأتيها من خارجها المحور الذي يبلور قوانينه ويشرع احكامه الخاصة وينظم سلوكياته واقعه الاجتماعي بشكل عام بحسب ما يراه من طريقة منسجمة مع الواقع (اسلوب الحياة وشكلها ومتطلباتها) والتاريخ الموضوعي والراهن الذي ينشأ فيه بدورته الجديدة والتي يبدعها العقل نفسه يقول ماكس فيبر (من بين اهم مظاهر سيرورة عملية عقلنة الفعل، الاستعاضة عن التسليم بالعادة القديمة، كذلك الانسجام المتزن مع الوضع من جهة مصلحة الذات مع تأكيد عدم استفاذ هذة السيرورة للوسائل.
فهو يؤكد عدة فصول مهمة تطل عليها عملية العقلنة (اعمال العقل) كانت في مقدمتها تجاوز العادات والمسلمات التي ترسبت بسكل فوضوي وعبثي وعلقت بذهن الانسان واصطنعت منه ذات اخرى لا تمت لذات الانسان الاصيلة بعلقة فهي نتاج افكار وعادات ومسلمات اخرين وكذلك من الفصول التي تتيحها عملية العقلنة هو خلق حالات من الانسجام والوئام بين الذات المفكرة (العاقلة وبين الواقع الموضوع الذي ينشأ فيه العقل لتتوافق الافكار مع الممارسات وتشكلان معاً عقلنة للواقع ومعطياته.
فلقد صار من المسلمات ان العقل لا يعلوا على التاريخ فهو حاصله ولا يجانب الجدل فتطور العقل مشروط بالمحاجة والحوار ومطارحة الفكرة ونقيضها (فهو ينموا مع تكثر المعلومات ووفرتها في حاضنته ومطارحة الافكار ونقائضها واضدادها والحيز الاجتماعي والثقافي الذي تنشأ فيه) لتنتج غيرها بنفس الجدلية الاولى مع فارق وفرة المعلومات وتطور الادوات وتغطية شمولية لتاريخ حركة العقل في انساقه التي تحول فيها وانتقل من مرحلة الى ثانية مشكلاً منظومة معرفية وتجريبية مهمة تعد مادة اولى لما بعدها.
ولذا ان العقل هو انماط من التفكير الشمولي المختلف عن غيرة هو طريقة في التأمل العميق والنقد النافذ الذي يعود على نفسه كل مرة بغرض التعديل والتصحيح ان لزم الامر لذلك، والحفر معرفيا في الاشياء وهو مجموعة تقنيات ذهنية تختص بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة في لحظة تاريخية خاصة وثقافة ينموا فيها ويحمل منها رشحات ومقاربات تغذي ما بعدها من مراحل الفكر والعقلانية.
وهذة التقنيات تتغير وتتحول تبعا للضروف الموضوعية والاشكاليات والازمات التي تفرض نفسها بقوة الاشكال والدهشة والتوتر الفكري على العقل لتدفعه للبحث فيها وتأملها والاستغراق داخلها لاستكناه معناها والكشف عن حقيقتها،فالعقل لا ينعزل عن التاريخ ولا عن ادواته التي يخترعها لفحص الاشياء..
