ستار كاووش
يحتاج الكثير من الناس في هذا الزمن الى نظارات من نوع خاص، يمكن أن نسميها نظارات العمى الإجتماعي. لأن هؤلاء لا يتوانون عن سعيهم في القفز على حدود اللياقة والتعامل المتحضر مع الآخرين الذي لا يعرفونهم، حيث يَنبَرونَ لهم بشكل غير مُتوقع، ويقذفونهم بكلمات تشبه الحجارة، أو يقطعونَ طريقهم بتصرفات لا تليق بإنسان متحضر.
ليس هناك قياسات محددة لِلَباقَة الإنسان وجمال تواصله مع الآخرين، لكن هناك حدود معينة لا يمكن تجاوزها ولا القفز عليها مهما كانت الذرائع والغايات. وإن كنتَ بسيطاً ومتسامحاً، فهذا لا يعني إقتحام عالمك الشخصي بأي وقت من قبل الآخرين، وكإنك مقهى مفتوحة الأبواب للقادم والذاهب، للمقيم والسائر على الطريق. فلكل منا مشاغله الشخصية وإهتماماته الفريدة وعوالمه التي يحبها، والإنسان ليس محلاً مفتوحاً لبيع المشاعر وصرف الوقت وتحضير الطلبات. كل إنسان في هذا العالم له ارتباطاته ومشاغله ومزاجه، ووقته الثمين الذي لا يمكن التفريط به بسهولة. لكن مع الاتصالات المجانية اليوم عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي، صار الكثيرون يتصلون بأي وقت دون مراعاة للوقت والمشاغل، أشخاص لا تعرفهم ولا يربطك بهم أي شيء، لا تاريخ ولا حاضر، لا أعمال مشتركة ولا مشاريع قادمة. هكذا يرن جرس التلفون وأنت في الحمام أو نائم أو حتى منشغل بالرسم أو الكتابة، أو بأقل تقدير تكون في المتجر تشرح لك البائعة مواصفات الحاجة التي أنت بصدد شرائها. وحين لا تستطيع الرد لحظة الإتصال (المُقدس)، عندها يبدأ الإستياء الذي يقترب من الهجوم، وكإنك أنت من إقتحم حياة المتصل، وأنتَ الذي لم يقدر وقته ولا ظروفه!
حين يضع الرسام مثلاً ألوان الإكريليك على باليت الرسم، فهو يقصد البدء بالرسم، ولا ينشغل بشيء آخر، لأن الألوان ستجف بعد مرور بعض الوقت إن لم يباشر بالعمل، وهذه التفاصيل يعرفها الرسامون ويعيشون معها كل وقتهم تقريباً. وهكذا، ما أن تهيء نفسك للرسم، حتى يأتيك بعد لحظات إتصال من شخص هو فقط صديقك على فيسبوك، وليس لديك تواصل سابق معه، وحين يكرر الإتصال، تترك الألوان، وتجيبه، وهنا يُفاجئك دون مقدمات ولا تقديم لنفسه الكريمة، وهو يفكر بشيء واحد لا غير، حيث تأتي الأعجوبة ويظهر الكنز الذي يُخفيه قائلاً (أرى إنك تذكر كلمة النبيذ كثيراً في كتاباتك. هل هناك داعٍ لذلك؟ وهل انت بحاجة لهذه الكلمات الخادشة للذوق والتقاليد و…) وبعد نهاية هذا الحديث السريع، أفكر مع نفسي متسائلاً: تُرى من الذي خدش الذوق؟ كلمة النبيذ أم إتصال من هذا النوع؟ أحقاً مازالت مثل هذه الأسئلة تحدث في عالمنا الحاضر؟ ألا زال هذا النوع من البشر موجود حقاً؟
ولم أكد أنسى مثل هذه التفاصيل أو أُحاول أن أتناساها، حتى يتصل أحد المعارف من جهة لا أعرفها، طالباً مني الإتصال بالسفير الهولندي في دولة بعيدة كي يساعد أحد أقاربه بالخروج من ذلك البلد! ولا أعرف كيف أخطأ هذا الصديق وإتصل بي بدلاً من الإتصال بكوفي عنان! فمن أين لي هذه الصلاحيات وأنا أقضي كل يومي في المرسم. ثم كيف أعرف السفير؟ وحتى لو عرفته، فهل أجرؤ على الإتصال به لأجل هذا الموضوع، وفي ساعة متأخرة ليلاً؟!
الطامة الكبرى حدثت حين إتصل بي قبل بضعة أيام صديق في منتصف الليل، وحين تركت سريري وأجبته، قال كلمات قليلة، ثم دخل في الموضوع مباشرة، بقوله (أرجو أن ترسل لي دفتر أو دفترين، لأني جداً محتاجها. عندها أجبته حاضر من عيني، لكن هل تريدها من نوع كانسون أم ساندرز؟ وهنا أجابني مستنكراً (أي كانسون تقصد؟) فقلت له (ألا تقصد دفاتر للرسم بالألوان المائية أو التخطيط؟) وهنا إنفجر قائلاً (هل تضحك عليَّ؟ الدفتر يعني شَدَّة من الدولارات) وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك بصوت عالٍ على جهلي وتَخَلُّفي، فالدفاتر التي أعرفها تختلف كثيراً عن دفاتر هذه الأيام!