سلام حربه

مازال موضوع الغائب في الاساطير والاديان من الامور المهمة التي تشغل بال البشر. كل الاديان تحتوي فكرة الغائب المخلص الذي يحضر بعد ان ينتشر الظلم والفساد والجوع والقهر ليقيم العدل ويرفع الجور عن كاهل الناس ويقتص من الظالمين وتعيش المجتمعات في كنفه بسعادة وأمان.

ارتبطت فكرة الغائب بعجز الانسان على مقاومة احكام الطبيعة وتقلباتها واشتداد مخاوف البشر من بني البشر الاقوى منهم وخوفه من الوحوش والضواري والحيوانات المفترسة، هذا الانسان الاعزل المجرد من كل قوة خاصة في المجتمعات التي تغيب عنها العدالة ويحاصر الظلم واقع الناس ويبطش بهم وبحاضرهم ومستقبلهم، تبقى عيون الناس شاخصة الى السماء عسى ان يبعث الله شخصا فيه قبس من نوره وبيده البعض من سلطانه ليقف مع الناس المستضعفين ضد الطغاة والمجرمين والجبابرة الذين يذيقون مجتمعاتهم الويل ومرّ العيش فينتصر الغائب لهم ويبيد هذه الطبقة الفاسدة وينشر العدل والحب والسلام في ربوع الاوطان..

ولكن رب سائل يسأل من أين أتت فكرة الغائب المنقذ وأين دونت وفي اي زمان ومكان..؟ الباحثون والمنقبون وعلماء الاساطير السومرية يأكدون ان فكرة الغائب ذكرت في اسطورة عشتار ودموزي من أساطير بلاد سومر منذ أكثر من خمسة الاف سنة حين قامت الالهة اينانا (عشتار) الهة معبد اوروك ( ملكة السماء ) وربة الحب والحرب ابنة الاله نان اله القمر واخت اوتو اله الشمس والمتزوجة من دموزي اله الرعي وخامس ملوك مدينة باد تيبيرا ( انني امشي بسرور وسيدي جدير بحضن مقدس )، عشتار حاكمة الحياة والموت قررت ان تنزل الى العالم السفلي من اجل الغاء الموت وبعث الموتى واعادة خلق الجسد وما على البشر والالهة الا تقبل فكرة التناوب حياة/ موت. تنزل عشتار الى الجحيم لتخلف اختها الالهة اريشكجال الهة العالم السفلي، حاولت عشتار اجتياز الابواب السبعة ولكن البوابين جردوها من ثيابها وحليها فثبتت اريشكيجال نظرة الموت عليها واصبح جسدها خامدا وعلق جسدها على وتد. من نتائج اختفاء الالهة عشتار توقف كامل الانتاج الانساني والحيواني وذُعرت الالهة من الزوال الفجائي للحياة وذهبوا الى الاله انليل من اجل ان يعيد عشتار الى الحياة فأمر الاله انكي ان يبعث رسولين يحملان غذاء الحياة وماء الحياة فتم رشهما على جسدها فعادت اليها الحياة ولكن قضاة جهنم السبعة ( الانوناكي ) منعوها من الخروج من الجحيم (من هو الذي نزل للجحيم وصعد بدون خسارة ، فاذا ارادت الصعود من الجحيم فعليها واجب تقديم من يحل محلها ) وذهب مع عشتار قطيع من الشياطين يدعى بالغالا عليهم اعادتها الى الجحيم ان لم تجد البديل. ديموزي الزوج بدل ان ينتحب على عشتار، كان جالسا على العرش بثياب فاخرة راضيا بكونه الملك الوحيد للمدينة فحدقت عشتار عليه بعينها (عين الموت) وتلفظت بكلام ضده وهتفت بلعنة اشارت للشياطين هذا هو احملوه.

استجار ديموزي بصهره اوتو اله الشمس ان يمسخه افعى وهرب الى بيت اخته غشتينانا الهة الزراعة والخصوبة وتفسير الاحلام، ثم الى حظيرة للخراف، قبض عليه الشياطين، عذبوه وقادوه للجحيم. الالهة اريشكيجال اشفقت على دموع تموزي وتألمت من مصيره المحزن، قررت ان هذا لن يبقى سوى نصف السنة في العالم السفلي وان اخته غشتينانا ستحل محله في النصف الاخر. دموزي غاب ليعود الظهور بعد ستة اشهر، الصيف الحار والجفاف في بلاد ما بين النهرين هما اللذان اوديا بحياته مبكرا ولذا يشارك الناس في جميع انحاء بلاد ما بين النهرين في طقوس عامة للحداد عليه خلال اشهر منتصف الصيف الذي يحمل اسمه شهر (تموز ) ليكون خروجه من الجحيم مرتبطا بفصل الربيع وعودة الحياة ونمو النباتات الى جانب كونه اله للرعاة، هذا التناوب ( الحضور والغياب الدوري للاله )كان قابلا لتكوين اسرار هامة خلاص البشر، مصيرهم المحتوم.

ان دور دموزي قد جسده الملوك الاكديون شعائريا لانه حقق التقارب بين النماذج الالهية البشرية وفيما بعد فكل كائن بشري يستطيع أن يأمل بالتمتع بهذا الامتياز المحجوز للملوك. لقد دعت عشتار كلكامش ليصبح زوجها، لقد ذكرها بأنها هي التي قررت المناحات السنوية من اجل دموزي، لكن هذه المناحات شعائرية: كان يندب فيها سقوط الاله الشاب للجحيم في الثامن عشر من تموز، مع تمام العلم بأنه سيصعد ستة اشهر بعد ذلك، هذه المناحات على دموزي امتدت الى الشرق الادنى وفي القرن الرابع ب. م في الديانة اليهودية أنب حزقيال نساء اورشليم اللواتي كن يندبن حتى على ابواب المعابد، تموز المنتهى باعتلاء المأساوي والرثائي للالهة الشباب الذين يموتون ويبعثون سنويا.. فكرة الانبعاث ما بعد الموت السومرية اخذتها الاديان الارضية والسماوية ودخلت في نصوصها الدينية ، اذ على العالم ان يرزخ قبل ظهور المنقذ تحت سلطان قوة شريرة، اليهود عندهم في هجوم يأجوج ومأجوج على العالم والمسيحيون طبقوه على التنين أو الحيوان الخرافي الذي اسموه ( ابو كاليبس ) ويرى المسلمون في ظهور نبي كاذب او شيطاني يعرف بالدجال ويعرفه الايرانيون بالافعى الضاحكة التي ترمز الى الشر وأصل السيئات..

ما يقابل انبعاث عشتار ودموزي من الموت وتجدد الحياة في الديانة الزرادشتية ظهور الغائب سوشيانت اخر ابناء النبي زرادشت الاثنى عشر في اخر الزمان ليقيم العدل والمساواة ويبشر بالقيامة، اما في الديانة اليهودية فسيظهر الاله يهوه على جبل صهيون وهو الذي يقيم العدل ويعاقب المشركين ويكافىء المؤمنين بالدين اليهودي ، اما في الديانة المسيحية فسيظهر المسيح الغائب الذي قام من موته بعد اليوم الثالث من صلبه ليعلن للعالم اجمع الحب والسلام والحرية ويبشر الناس بالنعيم الابدي بعد أن ضحى بنفسه للخلاص من الشرور الانسانية.

في الدين الاسلامي وفي المذهب الشيعي الاثنى عشرى فسيظهر المهدي المنتظر ع وهو آخر احفاد الرسول الكريم الاثنى عشر ليقيم العدل والمساواة ويحق الحق بعد ان يمحق الباطل والكفر ( ونريد ان نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) القصص : 5 . فكرة الغائب السومرية تسربت ليس الى الشرق الادنى فقط بل الى كل ارجاء المعمورة ودخل المنقذ او المخلص في صلب هذه الديانات الارضية ومنها المصرية والهندوسية والبوذية والجينية . وتبقى فكرة المنقذ مختلفة من دين الى اخر ومن مجتمع الى اخر حسب طبيعة المجتمع السياسية والاقتصادية فكلما كان الفقر والبؤس والحرمان والخوف والقلق تبطش في مجتمع فصورة المنقذ وطريقة ظهوره تكون مختلفة عن المجتمعات الاخرى . فكرة المنقذ في كل هذه الاديان والمجتمعات واحدة ويبقى أصلها سومري استنسخته الاقوام الاخرى في عقائدها من خلال اطلاعها ثقافيا على ما تركه السومريون من نصوص واساطير او من خلال احتلال الاقوام لبلاد سومر كالعلاميين الفرس او البابليين او الاشوريين ونقلهم لهذه الثقافة الى الشعوب التي استعمروها بعد ذلك سواء من كانت في الشرق او في اتصالهم بالاقوام البعيدة من خلال الحروب والتجارة..السومريون هم بناة الاديان والعقائد والافكار والمعارف لان التاريخ ابتدأ بهم وسينتهي اليهم..