اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > أديب كمال الدين: أيّ شاعر مبدع ومتميز وخلّاق ينبغي أن يمتلك قاموساً شعرياً خاصا به

أديب كمال الدين: أيّ شاعر مبدع ومتميز وخلّاق ينبغي أن يمتلك قاموساً شعرياً خاصا به

نشر في: 13 فبراير, 2023: 10:52 م

أركز على النصّ أولا وأخيراً فأنا أكتب لأضيف لتجربتي الشعرية نصّاً جديداً

حاوره/ علاء المفرجي

1-2

أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي. ولد عام 1953 في محافظة بابل العراق. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد 1976.

كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدر 25 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، منذ مشواره الشعري الذي بدأه مع مجموعته الأولى: "تفاصيل" 1976، منها: "نون"، "النقطة"، "شجرة الحروف"، "الحرف والغراب"، "مواقف الألف"، "في مرآة الحرف"، "حرف من ماء"، وفي الإنكليزية صدرت له مجاميعه: " أبوّة"، " ثمّة خطأ"، " حياتي، حياتي!".

كما أصدر المجلّدات الستة من أعماله الشعرية الكاملة، وفيها يظهر جليّاً تفرّده باستخدامه الحرف العربي ملاذاً روحياً وفنيّاً.

تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطالية والإنكليزية والفارسية والأوردية والإسبانية والفرنسية والكردية. نال جائزة الإبداع عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدر 14 كتابا نقديّا عن تجربته الشعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر والهند والمغرب وإيران وتونس.

ومن أهم أعماله: تفاصيل، ديوان عربيّ، جيم، نون، أخبار المعنى، النقطة، حاء، ما قبل الحرف، شجرة الحروف، أبوّة، أربعون قصيدة عن الحرف، مواقف الألف، أقول الحرف وأعني أصابعي، مواقف الألف، ثمّة خطأ، الحرف والغراب، تناص مع الموت: متن در متن موت، إشارات الألف، رقصة الحرف الأخيرة، الحرف وقطرات الحُبّ، حرف من ماء، دموع كلكامش وقصائد أخرى، في مرآة الحرف.

المتابع لتجربتك يتوقف عند الاهتمام النقدي بها فقد صدر (16) كتابا نقديا عنها.. في وقت يشكو البعض من الشعراء احجام النقد عن الاهتمام في الشعر .. ماذا تقول عن ذلك؟

- نعم أنصفني النقد، ولله الحمد، والسبب هو أن النقاد والباحثين وجدوا في قصائدي تجربة شعرية مختلفة عمّا اعتادوا عليه، كما وجدوها بشكل عام ممكنة التلقّي بشكل سلس، وممكنة الـتأويل على نحو يثير الأسئلة النقدية ممتعة وخصبة، فأحبّوها وتناولوها في عدد كبير من  المقالات النقدية والدراسات والبحوث، ولله الحمد، حتى صدر عن تجربتي 16 كتاباً نقدياً لنقّاد عراقيين وعرب كما ذكرتَ.

كما منحوني ألقابا مشتقة من تجربتي الشعرية الصوفية الحروفية، مثل “الحروفي”، “ملك الحروف”. “أمير الحروف”،” المنوّن”، “شاعر الحرف والنقطة”.

إنّ هذا العدد الكبير من المقالات والدراسات التي كتبها نقاد من مختلف البلدان والأجيال والاتجاهات الفنية ونشروها في الصحف والمجلات  المحكمة والمواقع عن تجربتي أمر يدعو للفرح دون شك. وبالطبع كان كل هذا الاحتفاء النقدي، من ناحية أخرى، خير معين لي للإستمرار في تعميق تجربة الحرف لديّ وتنويعها.

 وفي الأطار ظاهرة الموتيف تعني في الأدب الفكرة الرئيسة أو الموضوع الذي يتكرر نفسه خضعت تجربتك لاهتمام الدراسات الاكاديمية، هل ان انفرادك بالنص الحروفي هو السبب؟

- السبب يعود إلى الكم والنوع. فمن ناحية النوع، فقد ذكرت لك إلى أنني تفرّدت بكتابة النص الحروفي، ومن ناحية الكم فقد كتبت 25 مجموعة شعرية طيلة 50 عاماً. ومثلما أهتم النقاد بشعري وكتبوا عنه، فقد اهتم الأكاديميون به للأسباب ذاتها كون تجربتي تجربة شعرية مختلفة ومتفردة. بل إن الأكاديميين كانوا أكثر اهتماما بها حتى أنجزت حتى الآن 35 رسالة ماجستير ودكتوراه عن تجربتي الشعرية في العراق والجزائر والمغرب وتونس وإيران والهند. وهناك من الأبحاث الأكاديمية عن تجربتي والمنشورة في المجلدات المحكمة لو جُمعت لكانت هناك عدّة كتب مطبوعة وليس كتاباً واحداً.

 قرأت مرة عن ظاهرة الموتيف بقضية التكرار في الدرس البلاغي العربي ونلاحظ لهذه النظرية الحديثة التي دخلت الآداب الإنسانية أصولاً في النقد والبلاغة القديمين، الظاهرة موجودة عند شاعرنا أديب كمال الدين.. وتتمثل بموتيف شخصية نوح (عليه السلام) في شعر أديب كمال الدين له دلالات عديدة، فقد «تقمّص» الشاعر شخصية هذا الرسول العظيم وبيّن الظلم والاضطهاد من خلال توظيف الرمز الديني في شخصية نوح.. هل توافق على ذلك؟

- موضوعة نوح (ع) موضوعة كبيرة شعريا برأيي. فقد أنفق نوح ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعو الناس دون كلل أو ملل ثم لم يؤمن به إلّا القليل. بل تعرض للسخرية والاضطهاد والاستهزاء حتى صرخ صرخته الكبرى (إنّي مغلوبٌ فانتصرْ). فاستجاب له الله بالطوفان العظيم. لكنّي تناولت أيضاً في شعري الكثير من الأسماء الذين تعرضت للإضطهاد بشتى صنوفه وأنواعه في سبيل قول كلمة الحقيقة كإبراهيم (ع)، ويوسف (ع)، والمصطفى (ص)، وعلي والحسين والسجّاد (عليهم السلام). وكذلك كتبتُ الكثير من القصائد عن المتصوفة الكبار كالحلّاج، والنفّري، والتوحيدي، ومحنتهم العظيمة.

 وهل اكتفيت في شعرك ب»تقمّص» الأسماء المقدسة والمتصوفة فقط؟

- بالطبع لا. لقد كانت تجربتي في تناول الآخر ومحاورته شديدة الخصوبة والتنوع. فلم أكتفِ بالآخر المقدس والصوفي بل كتبت عن الآخر الأسطوري كأنكيدو، وكلكامش الكثير من القصائد. ومن تراثنا الزاهر كتبت عن شهرزاد، وشهريار، والسندباد، والمعرّي، وديك الجنّ، وعباس بن فرناس.

وكذلك كتبت عن الآخر: الشاعر المعاصر، كالسيّاب، وعبد الوهاب البياتي، ومظفر النواب، ومحمود البريكان، وسركون بولص، ويوسف الصائغ، وعيسى حسن الياسري، وجان دمّو، وصاحب الشاهر، ورعد عبد القادر، وخالد جابر يوسف. كما كتبتُ عن نقّاد زاملتهم من أمثال عبد الجبار عباس، وإذاعيين كمهنّد الأنصاري، وروائيين كسعد محمد رحيم، ومعماريين كزُها حديد، بل إنني كتبت عن مطربين ومطربات عراقيين وعرباً تركوا آثارهم الروحية عليّ من أمثال أم كلثوم، وفريد الأطرش، ومحمد القبانجي، وناظم الغزالي، وعفيفة إسكندر، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ . ولي كذلك الكثير من القصائد عن الرموز الإبداعية العالمية الكبيرة من أمثال: دوستويفسكي، طاغور، تولستوي، هرمان هسه، لوركا، همنغواي، ت. أس. إليوت، بيكيت، تد هيوز، سيلفيا بلاث، ماركيز، شارلي شابلن، شوبان، فان كوخ، ألن ديلون، زوربا، محمد علي كلاي وغيرهم.

 شخّصت بعض الدراسات النقدية ميلك إلى استخدام تفنيات السرد والحوار واللقطات السينمائية في قصائدك. أترى في ذلك إغناء للنص الشعري؟

-  نعم بعض قصائدي تمتلك حضوراً سردياً. فالسردية ذات حضور أكيد وبارز في قصيدة النثر عربياً وعالمياً وهذا أصبح في حكم البديهيات الآن. كما أنني أسمح بحضورها ضمن قاموسي الشعري الحروفي، وضمن تقنية الاقتصاد في اللغة، وضمن النمو العضوي للقصيدة.

إن قصيدتي  تعتمد، أيضا، على الإفادة من تقنيات السينما والمسرح والفن التشكيلي.  وفي كل هذه الاستعانة هناك إثراء وإغناء، دون شك، لشعرية القصيدة وتجددها وتطورها الجمالي. ستجد ذلك واضحاً في شعري بشكل جلّي. إذ تظهر الكثير من قصائدي بهيئة حوار مع الذات أو مع الآخر أو بهيئة لقطات سينمائية  متنامية أو لوحات تشكيلية لكنّي أحرص دائماً وبقوّة أن يتمّ هذا النوع من الإفادة المسرحية أو السينمائية أو التشكيلية بشكل فني جمالي خالص، دون تقحّم خارجي أو فرض لا مبرر له، وأن يتم ذلك أولاً وأخيراً من خلال تقنية قصيدتي الخاصة كما ذكرت قبل قليل.

 تُرجم الكثير من نصوصك الى العديد من اللغات، وقمتَ أنتَ بترجمة بعضها الى الإنكليزية.. ما الذي تراه في هذه التجربة التي خلقت لك إعجاباً من القارئ الأسترالي؟

- من الضروري جدا أن تتم ترجمة الشعر إلى لغات العالم الحية. فأن يبقى شعر الشاعر حبيس لغته يعني له البقاء في قفص المحدودية القاتل. وكلّما كثرت اللغات التي تتم ترجمة شعر الشاعر إليها أتاح ذلك أن يطلع عليه المزيد من القراء في أنحاء العالم ليتعرفوا إليه وإلى تفاصيل إبداعه.

وقد حققت مجاميعي الثلاثة المترجمة إلى الإنكليزية والصادرة في أستراليا، وهي: «أبوّة» 2009، و «ثمّة خطأ» 2012، و«حياتي، حياتي» 2021، قبولاً وإعجاباً واضحين من قبل الوسط الثقافي الأسترالي ولله الحمد.

ففي عام 2007 أُخْتيرتْ قصيدتي (أرق) واحدةً من أفضل القصائد الأسترالية The Best Australian Poems 2007  وصدرت في أنطولوجيا خاصة في مدينة ملبورن، أشرف عليها الشاعر والكاتب الأسترالي الكبير بيتر روز Peter Rose.  وفي عام 2012 ولله الحمد أُخْتيرتْ قصيدتي (ثمّة خطأ) واحدةً من أفضل القصائد الأسترالية  The Best Australian Poems 2012 وصدرت في أنطولوجيا خاصة قام  بإعدادها الكاتب الأسترالي الشهير: جون ترانتر Jone Tranter. وهذا بالطبع حقق لي مكانة في الشعر الأسترالي نادراً ما ينالها شاعر مهاجر. إذ أُقِيم حفل توقيع خاص بمجموعتي (ثمّة خطأ) في اتحاد أدباء ولاية جنوب أستراليا،  قرأت فيه الناقدتان د. آن ماري سمث ود. هِثر جونسن دراستين عن المجموعة. وكتبت الشاعرة الأسترالية جود أكولينا مقالة نقدية تشيد بشعري، طبعا هذا إضافة إلى مشاركاتي في قراءات شعرية عديدة في مدينتي أديلايد وتاونسفل، ونشري لقصائدي في مجلات أدبية مرموقة مثل Southerly و Meanjin .

وعند الانتقال للحديث عن اللغات الأخرى، فقد تُرجمت مختارات من قصائدي إلى الفرنسية بعنوان (الحرف وقطرات الحب) من قبل المترجم والأكاديمي د. ناجح بغام وصدرت عام 2017 عن دار جناح في فرنسا. وصدرت مختارات من شعري باللغة الإسبانية بعنوان: (دموع كلكامش وقصائد أخرى) عن دار لاستورا في مدريد عام 2017. ترجمها إلى الإسبانية المستعرب الإسباني جوزيب غريغوري، وراجعها وقدّم لها الشاعر والمترجم د. عبد الهادي سعدون. وترجمت د. أسماء غريب مجموعتي (أربعون قصيدة عن الحرف) إلى الإيطالية لتصدر في إيطاليا عن منشورات نووفا إيبسا إيديتوره عام 2011 . وبعد عام على صدورها  أُقيمت لي احتفالية متميزة هناك بدعوة من الناشر شاركتُ فيها رفقة المترجمة وعدد من أدباء إيطاليا. مثلما ترجم الشاعر الباكستاني اقتدار جاويد مختارات من شعري إلى اللغة الأوردية تحت عنوان (تناص مع الموت) وصدرت عن منشورات كلاسيك في مدينة لاهور الباكستانية عام 2013. وأخيرا فقد ترجم د. نعيم عموري مجموعتين شعريتين لي هما (مواقف الألف) و(الحرف والغراب) إلى الفارسية وصدرتا عن دار قهوة في الأهواز عام 2022.

 يُعد أديب كمال الدين أحد الأصوات الشعرية المتميزة في الجيل السبعيني.. برأيك ما الذي قدمه السبعينيون من إضافة للشعر العراقي وما ملامح تجربتهم؟

- كان السبعينيون خليطاً غير متجانس من الشعراء. منهم من جاء إلى الشعر بقصد كتابة الشعر الحقيقي المبدع للتعبير عن أسئلة الحياة الكبرى، ومنه من جاء بقصد الاستحواذ على منافع الشعر الآنية كالشهرة، المال، الحضور الإجتماعي، المناصب..إلخ. وكثير من ذلك كان يحققه الشعر في زمن السبعينيات حيث لم تكن فيه وسائل التواصل الإجتماعي ولا الفضائيات قد أحكمت قبضتها على كلّ شيء. وبمرور الزمن لم يبقَ على قيد الحياة الشعرية إلّا من جاء بهدف الشعر المبدع وليس سواه، فقد انقرض أصحاب المنافع شيئاً فشيئاً. ولم يبقَ إلّا من حاول أن يرسم قصيدة تنبض بالحياة وروحها المستترة، ويكتب قصيدة متميزة برموزه وبملامحه الفنية والروحية هو وليس برموز وملامح سواه.

 هل كان لسنوات الغربة لها أثر في شعرك، وبأيّ إتجاه؟

- نعم كان لها الأثر البالغ، فلقد أعطتني الغربة الكثير من الأسى، لكنني- بفضل عظيم من الله- حوّلت هذا الأسى الهائل إلى نهر شعر متواصل الجريان جَمَّل لي الكثير مما رأيتُ أو عشتُ أو عانيتُ وإن كان شديد القسوة والألم.

لقد جعلت الغربةُ الكتابةَ الشعرية بمثابة وطن لي! فصرتُ أقيس أيامي وسنواتي بمقدار ما أكتب. وأفرح كثيراً حين أكتب قصيدة جديدة، وبخاصة إذا شعرت أنها مميزة على صعيد تجربتي الكتابية. فهي دليل على أنني حيّ وأنا أتقدّم إلى الأمام!

 خلال العقدين الأخيرين، سادت الرواية في المشهد الثقافي العراقي الى درجة عدّها البعض انها أزاحت الشعر من عرشه؟ ما رأيك انت كشاعر؟

- إن هذا «الصراع” ما بين الشعر والرواية، في قسم منه كبير، يبدو أمراً طبيعياً. فكلما خطا المجتمع، أيّ مجتمع، خطوات كبيرة وجادة وحقيقية نحو التطور الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي كلما مال مزاج القراء نحو الرواية وانحسرت أمواج الشعر. وحين خطت المجتمعات الغربية خطوات هائلة بهذا الاتجاه منذ الثورة الصناعية كانت النتيجة سيطرة الرواية على الساحة الأدبية وانحسار الشعر شيئاً فشيئاً. والمجتمع العراقي ليس استثناءً بالطبع، لكنّ الشعر سيبقى قوياً في حضوره الروحي وتأثيره الاجتماعي في العراق لزمن طويل، لأنّ المجتمع العراقي يتطوّر اقتصادياً وتكنولوجياً بشكل بطيء وتطوره فوقيّ خارجيّ لا يلامس أعماق المجتمع وتقاليده الثقافية بشكل جدّي.

هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن المبدع الغربي يمارس كتابة أكثر من جنس أدبي فهو يكتب الرواية والشعر والمسرحية والسيناريو السينمائي. فهي كلها عنده وسائل إبداع يُراد منها إطلاق أسئلة الروح الكبرى عن الحياة ومغزاها وأحلامها وتفاصيلها. وهذا هو عين الصواب دون شك. أنا الآن أقرأ، بمتعة عميقة، مجاميع شعرية كتبها أدباء مشاهير من أمثال هرمان هسّه، وغونتر غراس، وبرتولت برشت تألقوا في عالم الرواية أو المسرح تألقاً عظيماً حتى نال هسّه وغراس جائزة نوبل وأصبح برشت أيقونة مسرحية لا تُبارى. أما في مجتمعنا فالأمر مختلف جداً ويدعو إلى الضحك في أحيان كثيرة، فإذا كتب الشاعر رواية فإنّ الدنيا تقوم ولا تقعد حتى يُقال أو قيل إنه بدأ عصر الهجرة إلى الرواية بعد أن فعل ذلك أكثر من شاعر. وإذا كتب روائي مجموعة شعرية قيل له: ما لكَ والشعر؟ هل فشلتَ في الرواية حتى طرقت باب الشعر؟ وهكذا...

ورغم كلّ شيء، أبقى شاعراً متحيزاً للشعر، لأنه الرديف الحقيقي للإنسان في كل زمان ومكان. إنه صوته الداخلي السرّي الصافي العميق. إنه خلاصته وهو يواجه الموت والعبث والعجز والغربة ودوران السنين العجيب، وهو سؤاله الأزليّ الأبديّ!

 متى تولد قصيدتك؟

- الشعر هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة، ومضة صعبة الوصف، لكنها مبثوثة في الجمال المدهش أو المعاناة العميقة حد الإدهاش أو الجنون. وعلى الشاعر أن يلتقطها بعينه الثاقبة، ونبضة قلبه العاشقة، وحرفه الذي يجيد الكشف وتسمية الأشياء.

هكذا تبدأ القصيدة عندي استجابةً لدمعة حرّى أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو لمشهد مثير أو لأغنية عذبة أو لذكرى مؤلمة، وأستطيع غالبا أن أتلقّف هذه الشرارة المباركة أو الملعونة  أو الجريحة أو المعذَّبة في أيّ وقت لأشعل بها ذاكرتي التي تشبه حطباً جاهزاً للاشتعال، فتنثال عندي الصور والحروف والكلمات انثيالا.

 وأنت تكتب نصّك الشعري: أتحسب حساباً للقارئ أم أنك تركّز على النصّ أولا؟

- أركز على النصّ أولا وأخيراً.  فأنا أكتب لأضيف لتجربتي الشعرية نصّاً جديداً أريده أن يكون مبدعاً، بمعنى أن يمتلك حظه من الشعرية. هذا من الناحية الفنية أما من الناحية الإنسانية، فإنني أريد من نصّي الجديد، وأريد من الشعر بشكل عام أن يمنحني فرصة التوازن في عالم مجنون من الألف إلى الياء. أريد من الشعر أن يبقيني متماسكاً بأيّ شكل من الأشكال بدلاً من أن أتشظّى بفعل المعاناة التي لا ينتهي سيلها الضّاج.

لكنّي من جهة أخرى، لا أتعالى على القارئ، وأحاول– خاصة عندما أنقّح قصيدتي- أن أزيل المواقع الشديدة الغموض في القصيدة إن وُجِدتْ وأجعلها أكثر سلاسة إن أمكن ذلك، كي يبقى جسر الاتصال مع القارئ مفتوحاً ومضيئاً دائماً.

 صدرت مجموعتك الأولى (تفاصيل، بغداد عام 1976) ومجموعتك الأخيرة (وكان له حرف، بيروت 2020)؟ نريد تفاصيلَ عن تفاصيل، وعن حرفك في آخر مجموعة له.

* صدرت (تفاصيل) عام 1976، وكان عمري حينذاك 22 عاماً فقط. كان صدورها حدثاً رائعاً وسعيداً بكلّ معنى الكلمة في حياتي. فقد كانت مجموعتي الأولى وأولى خطواتي في عالم الشعر. وقد طبعتها على نفقني الخاصة في مدينة النجف الأشرف، بعد أن رفضت وزارة الثقافة والإعلام طباعتها لأنّها (جاءت خالية من ذكر منجزات الثورة والتغنّي بها!) كما أعلمني سكرتير لجنة التعضيد والنشر في الوزارة المرحوم موسى كريدي. ولم أزل حتّى الآن أتذكّر تفاصيل طباعتها وكيفية نقلها إلى بغداد وكأنّ الأمر حدث البارحة!

طبعتُها في مطبعة الغري العائدة للمرحوم رشيد المطبعي الذي التقيته صدفةً في محلّ الفنّان الخطّاط حميد ياسين الكائن في بداية شارع المتنبيّ حينذاك. واتفقنا على طباعتها بمبلغ 170 ديناراً لألف نسخة (وهو مبلغ كبير حينذاك). أمّا الغلاف الجميل فقد طبعته في إحدى مطابع شارع المتنبيّ ببغداد. وقد صمّمه الفنان المبدع حميد ياسين أمامي في زمن قياسي.

احتفت مجموعتي (تفاصيل) بصدق عميق بجذور الحياة مطلقةً أولى أسئلة الروح عن الحياة ومغزاها وسرّها الأزليّ، احتفت ببراءة عذبة ب»جسد الرؤيا» للرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثمَّ صرخة الموت. هكذا صار على الشاعر، كي يكون شاهداً حقيقياً، أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أنّ الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. صار على الشاعر أن يؤسس فنيّاً لحرف الصرخة التي ستتحوّل إلى حبّ وعشق وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش وحرمان وأرق ومعاناة.

ذكرتُ ذلك في إحدى قصائد المجموعة، وهي قصيدة (قصائد صغيرة):

لا تذهبْ أكثر

من مائدةِ الأطفالْ:

من مائدةِ الفرحِ الباسق،

من مائدةِ النخلِ الباسق

وغناءِ البَطِّ، تماثيلِ الطينِ، الأعشابْ.

لا تذهبْ أكثر من صحراء الغيرةِ والنومِ الأزرق،

صحراء الكلسِ الأبيضِ والكلْماتِ الشعثاءْ.

لا تذهبْ أكثر من جسدِ الرؤيا!

هذه هي الوصيّة الشعريّة الأولى التي ألزمتُ بها نفْسي فالتزمتْ بها طوال المجاميع الكثيرة التي كتبتها بعد (تفاصيل) ولله الحمد، هذه هي بوصلة طريقي الشعري المضيئة بالتأمّل، والزهد، والحبّ بمعناه الواسع الكبير.

أما مجموعتي الأخيرة (وكان له حرف) الصادرة ببيروت في طبعة أنيقة عام 2020 ، ضمن المجلد السادس من أعمالي الشعرية الكاملة، فقد احتوت على ثلاثين قصيدة كشفت وجوه الحرف في عشقه وزهده وخوفه وحزنه وسعادته وحلمه وأرقه وتأمّله وحياته وموته. وهي بالطبع وجوهي أنا. نعم، فالحرف مرآتي الأبدية!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram