طالب عبد العزيز
على طرف الطاولة، تركتُ فنجان القهوة، بما تبقّى في جوفه من لطخات البن، مازال طعمُ حبّة التمر البرحيِّ المدافة بالسمسم، والمحشوّة باللوزعالقاً بفمي، وقد فرغت للتو من حلاقة ذقني، وتعطرت بماء القولونيا ماركةPOMPEIA الفرنسية الشهيرة،
التي استعملها منذ قرابة نصف قرن. هذا الصباح أكثر من سبب لفتح الباب، ومعاينة الكائنات وهي تأتي أو تمضي الى أشيائها، أكثر من سبب لقول شيءٍ مختلف، وفي الطريق التي تخلو من المارة الآن محرضٌ آخر لفعل ما، لا أعرفه، وأسعدُ كثيراً أنني لا أعرفه. في القيعة الرطبة التي تتقدم مبنى البيت، وعلى نخيلها وأشجارها بقيا من مطر فجر البارحة، هناك أكثر من سبب للسعادةِ لكي تهبَّ باردةً، وللمباهج أنْ تدنو، لذا، وعلى خلاف القاعدة كانت مائدة نزهت سيدة صباح اليوم هذا، فقد تمكنتُ من زحزحة سيدته الكبرى فيروز.. وتركتُ للريح العبثَ بتنانير نساء أخيلتي الجميلات.
ولأنَّ الكتابة نوعٌ من الفعل اليدوي، بحسب هاروكي ماروكي، فقد بحثتُ عن كتاب صديقي الشاعر والناقد علي عبد الامير(الفستان الاحمر)الذي اشتقَّ عنوانه من اغنية بذات الاسم لمائدة نزهت، لكنني لم أعثر عليه، أو أنني لم اقتنه بالاساس. لا أمتدحُ صوت مائدة، لكنَّ حياةً بغدادية تتلبسني عند سماعها، ويحملني صوتها الى بغداد التي اعشق، على انشداد جسدي الى تراب البصرة، هناك بغددة تتخلق في روح كل كائن لا طاقة لمخلوق، شاعر مثلي على تحملها دون قولة الله أكبر، منزوعةً من جفنين محترقيتن بالدمع، من قلب مفجوع بحب لا يقوى عليه جسدٌ سيبلغ السبعين بعد شهرين. كنتُ أشعر كم نبخس حقَّ بغدادنا، وكم وقع على مدنيتنا ومدينتنا من جور هؤلاء، الذين لم يجدوا في صوت مائدة نزهت بغدادهم.
لا أريد ليومي هذا أن ينصرف عن الجمال، ففي الغد سأخرج مع الاصدقاء بنزهة، شبه بريئة الى شبه جزيرة الصالحية، على شط العرب، وسأنعم معهم بحديث الشعر والاغنية والمطر وصناعة القيم، لذا، لن أخوض مخاضة بداية الاسبوع التي ترذلت بالمحتوى السيء وغير الاخلاقي، لهذا ساحتفل بمائدة نزهت على طريقتي الخاصة، كعاشق لبغداد أولاً وكيساري سابق، ولأتوقف عند النقلة الاهم في حياة مائدة، والتي تمثلت بزواجها من الملحن سمير بغدادي(وديع خوندة)ذي التوجّه اليساري أيضاً، وقد توَّجَ انحيازه باغنية هي الاجمل عندي"على أم الفستان الاحمر" يوم كان اللون الاحمر صوت الحرية ونشيد الحياة الكريمة، يوم كانت بغداد تتهادى عطراً باذخاً أينما توجه اهلُها، يوم كانت شوارعها ومبانيها وحاناتها وحدائقها قبلة المدنية الموعودة، وركيزة التحضر التي لا سبيل إلا لاستمرارها.
قد لا ترسم مائدة نزهت صورة بغداد الانيقة بمفردها آنذاك، فالمدنية التي ابتدأت تدبُّ انشطتها في مفاصل الحياة تعود بجذورها الى أربعينات القرن الماضي، وتتمثل في أكثر من اتجاه فنيٍّ ومعماري وثقافي، وإذا كانت الاغنية المثالَ الاكثر وضوحاً، فلأنَّ الموسيقى والأصوات الجميلة هي الاسرع والاقرب الى الروح. شاءت الدنيا لبغدادَ مغادرة عثمانيتها وأحوال ما بعد الحربين لتأسس من جديد، كواحدة من اجمل عواصم الشرق، لذا، لم يتوان البغداديون عن ارتداء ثياب عصرهم، والارتماس حدَّ الغرق بنهر الجمال، وتقبّل -عن طيب خاطر- كلَّ ما تبذله المدينة من عناصر الألفة والحب والجمال، فكانت البيوت الانيقة، ذات الاسيجة الواطئة، والشرفات المزدانة بالورد، والحدائق المنزلية العامرة بالآس ومختلف ألوان الفاكهة والمقاهي والحانات ودور السينما والمسارح ووو... تدعو الناس لتسلّم كل ماهو جميل وجوهري في الحياة، وحين نصغي الى أغاني الخمسينات والستينات سنعثرُ على ما يوضح ذلك، ولن نعثر على ألم وشكوى من شيء اللهم إلا من فراق حبيب وهجران حبيبة. فقد كانت الحياة مثلما تصفها مائدة:"شتسوى الدنيا بغير الحب! شتسوى الدنيا بلا محبوب؟".