اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > جبـرا إبراهيـم جبـرا .. اضاءة عتمة صغيرة في صورة مثقف كبير

جبـرا إبراهيـم جبـرا .. اضاءة عتمة صغيرة في صورة مثقف كبير

نشر في: 14 فبراير, 2023: 11:29 م

لطفية الدليمي

قبيل رحيله المفاجئ بيومين قال لي جبرا ابراهيم جبرا في آخر مكالمة بيننا:

- الدنيا برد، خرجت للتمشي كعادتي كل يوم في شارع الأميرات، كدت أتجمد فعدت مسرعاً إلى البيت.

أردف قائلاً: هاتفتني صديقة رائعة من عمان تخبرني بسقوط الثلج، غبطتها وقلت لها أتمنى أن أتمشى معكم تحت انهمار الثلوج. تعلمين - لطفية - أنا نشأت في القدس، الثلج كان رفيق طفولتي وشبابي، كم أحب الثلج !، لا، لن أتمشى بعد الآن في نهارات بغداد الباردة، برد بغداد يخترق العظام، ماعدت أحتمل البرد، ليت السماء تهبنا بعض ثلجها لندفأ بعده.

في ذلك الغسق الشتائي البعيد رأيته عائداً إلى بيته ملفعاً بشال صوفي بلون المشمش ومرتدياً جاكيتاً من المخمل البني، وشعرُهُ الأبيض المضطرب يتمرد على حقيقة سنواته التي قاربت الثمانين ويمنحه سحنة شاب في إهاب شيخ جليل.

أستحضر تلك الصورة الأخيرة فلا أجد سوى الرماد الذي بقي العلامة الوحيدة في شارع الأميرات يشير إلى مصير المدينة التي أحبها وأحبته وتزوج إحدى بنات أسرها ليوثق عقد عشقه لبغداد، بقي الرماد والشجر المحترق والأنقاض شهوداً على جائحة الارهاب وإهمال المعنيين لإنشاء متحفه وحماية إرثه الثقافي الهائل من رسائل ومخطوطات وترجمات ومجاميع شعر وأعمال نقدية ومئات الاعمال الفنية من لوحات ومنحوتات وقطع فخار لعمالقة الفن العراقي في القرن العشرين ومن بينها لوحاته وتخطيطاته الجميلة.

لاثلج الان ولابرد يردع خطا جبرا المسائية عن السير تحت صفوف النخل الرشيقة في شارع الاميرات.

تهاتفنا قبل رحيله بأيام أربعة، كنت موشكة على الانتهاء من قراءة روايته الأخيرة (يوميات سراب عفان) وأخبرته أننا سنتحدث عنها عندما نلتقيه مساء الأربعاء القادم. في صباح الاثنين 12 كانون الاول 1994 إتصل بي كاتب صديق يبلغني نبأ رحيل جبرا ويطلب إليّ كتابة كلمة في وداعه.

المقدسي المفعم بالمحبة وعنفوان الحياة حتى آخر الكلمات، المبدع الذي بقي فتياً في منجزه زاخر القلب بالسماحة والتواضع، هذا المقدسي الذي كان صلباً كسنديانة في جبل المكبر، عذباً كقطرة مطر في قيظ بغداد، غافلنا ذلك اليوم وأعلن انتهاء المجابهة بين قلبه المتعب وحياة الوحدة، وعَقَدَ الهدنة مع الزائر الاخير، تخلى عن احتفائه المتجدد بالطبيعة والموسيقى والفنون وترك يده التي تزخرفها وشوم الزمن للزائر الملحاح تصحبه إلى ماوراء الزمان في محاولة لاعلان فوز الموت ؛ لكن أستاذنا كان هو الفائز في سباق الموت بما ترك وما أبقى في ذاكراتنا وحيواتنا ونسقنا الثقافي منذ خمسينيات القرن الماضي.

* * * * *

غاب جبرا إبراهيم جبرا عن عالمنا منذ أكثر من ربع قرن ؛ لكنه لايزالُ مقروءاً في نطاقات واسعة. تكمنُ فرادة جبرا في أنّ حياته قدّمت مثالاً معيارياً لصورة المثقف The Intellectual الكلاسيكي الذي تقدّمه لنا الثقافات العالمية (وبخاصة الانكلوفونية منها) ؛ حيث تتعشّقُ في فكره إشتغالات فكرية وأدبية عديدة، وبهذا الفهم يكون جبرا حائزاً لكلّ متطلبات المثقف الكلاسيكي - رغم توجهاته الحداثية -: كان كاتباً وروائياً وناقداً أدبياً وشاعراً ورسّاماً وكاتباً مقالياً ومتذوّق موسيقى كلاسيكية، تمازج فيه حبّ الفكر في أعلى تجلياته مع عشق الحياة إلى مدياتها القصية.

مَنْ أراد معرفة دقيقة بجبرا فيمكن له تلمّس جوانب من شخصيته متعددة الاشتغالات في كتبه الكثيرة وفي رواياته، ولستُ في حاجة للتأكيد أنّ جبرا ذاته قدّم تفاصيل مثيرة عن حياته في سيرته الذاتية التي جاءت في جزئين: البئر الأولى، و شارع الأميرات. جبرا مخبوء في ثنايا سيرته الذاتية التي أعتقدُ بأنها أجملُ وأثرى سيرة ذاتية قرأتها لكاتب عراقي أو عربي.

* * * * *

حرص جبرا كلّ الحرص على خدمة ضيوفه بنفسه واستضافتهم بقهوة من صنع يديه. كان يقول لنا عندما تبادر واحدة من الصديقات لإعداد القهوة في كلّ مرة نزوره فيها:

- لايمكن، يجب أن أعملها بنفسي

وحين نعترض كان يقول بنوع من الفخر والتأسي:

- أربعون عاماً وأنا أغلي القهوة لرفيقة العمر (لميعة) حتى يوم رحيلها قبل عامين، لم أتوقف يوماً عن إعداد القهوة لها، أنا أجيد غلي القهوة، لاتتدخلن في اختصاص عمري.

تقول الصديقات: بل نحن نعدُّها، إسترح أستاذ.

يقول بأصرار: هذه فرصة لن تتاح لسواي من الرجال عندما أعِدُّ القهوة لسيدات رائعات و مبدعات رائعات أيضاً.

* * * * *

صيادون في شارع ضيق هي الرواية الأولى التي كتبها – بالانكليزية - المثقف متعدد الأوجه وأحد أقطاب الانتلجنسيا العربية، الراحل (جبرا إبراهيم جبرا) بعد أنّ حلّ ببغداد عقب إكمال دراسته الجامعية في جامعة كامبردج البريطانية. كانت (صيادون...) رواية جبرا الأولى مثلما كانت مدخلاً لولوجي عالم جبرا الروائي والفكري قبل أن ألتقيه شخصياً عقب قراءتي لروايته تلك بعقود عدّة. لم أزل أعتقدُ أنّ هذه هي أفضلُ رواية كتبها جبرا بالقياس مع كلّ رواياته العديدة التي كتبها لاحقاً. من المؤكّد أنّ جبرا – بما يمتلكه من عقل فلسفي وأدبي وفني مركّب – هو أفضلُ كباحث ومُنظّر منه كروائي ؛ لكنّ هذه الرواية تبقى فريدة وعالقة في الذاكرة ربما بسبب أجوائها البغدادية المعبقة بأشذاء شارع الرشيد بكلّ حمولته الواقعية والأسطورية. كتب جبرا هذه الرواية في بدايات خمسينيات القرن الماضي بإنكليزيته الرفيعة التي جعلت الناقد الأدبي لملحق التايمز الأدبي يصف جبرا بأنّه (يتنفّسُ هواءً فكتورياً !!). كان عملاً جليلاً عندما أقدم الدكتور (محمد عصفور) على ترجمة هذه الرواية إلى العربية عام 1970.

* * * * *

لم أزل أذكر غمامة الحزن التي داهمتني وأنا أقرأ مقالة الروائي والمترجم الراحل جبرا إبراهيم جبرا التي كتبها في مجلة "آفاق عربية" قبل أيام قليلة من رحيله.

كانت المقالة بعنوان "قطرتان من الحلاوة"، وقد احتلّت الصفحة الكاملة ماقبل الأخيرة المخصصة لكبار الكُتّاب. قرأت المقالة مراراً واستشعرت طعم الأسى الذي كان يفضح انطفاء وهج الحياة في روح جبرا، الذي عرفته كاتباً صديقاً (متخيلاً) رائعاً ؛ غير أنّ ذلك الأسى كان مُحمّلاً بشحنة فلسفية عميقة جعلت ذلك النصّ وكأنه خبرة جوهرية من الخبرات المكثفة الأثيرة في الحياة.

كان ذلك النص "الجبرائي" فياضاً ببساطة جليّة ؛ لكنها بساطة الحفريات العميقة التي تقطّر الخبرات المعتّقة في مفردات شفافة. يقول جبرا في نصّه - وبقدر ما تسعفني به ذاكرتي - أنّه مضى في حياته لفعل أشياء كثيرة مدفوعاً بدوافع مختلفة في ظاهرها ؛ فقد أبحر منذ بواكير شبابه أيام الحرب العالمية الثانية للدراسة في كامبردج، ثم ركب المحيط مرة ثانية لإكمال دراسته في هارفرد، ولطالما جدّف مع زملائه الكامبريدجيين في نهر الكام الذي شهد سباقات التجديف الشهيرة، وعرف أناساً كثيرين نساءً ورجالاً، ومضى يمشي لمسافات طويلة في متاهات الغابات، وشرب أنواعاً لا تحصى من النبيذ، وكتب كتباً كثيرة، ودبّج مقالات عديدة، إلخ،.ثمّ ينتهي جبرا بتقرير حقيقة تنطوي على خلاصة تجربة ثرية عندما يعترف بأنّه فعل مافعل ابتغاءً لقطرتين فحسب من الحلاوة في بحر المرارات التي يعيشها كل امرئ منّا.

غريبة هذه الحقيقة !! وبقدر ماهي غريبة للوهلة الأولى فإنّها تشعّ بحقيقة ساطعة نعيشها ولاندركها في الغالب، ولعلها إجابة معقولة إلى حدّ ما لذلك السؤال الفلسفي الأنطولوجي الذي نطرحه - بين أسئلة كثيرة - عن معنى الحياة وجدواها وغائيتها. قد يُفني الكثيرون منّا سنوات طويلة - بل وربما حيوات كاملة - وهم يبحثون عن إجابات لمثل تلك الأسئلة، يحدوهم أملٌ عريض في بلوغ إجابات حاسمة وكأن الحياة البشرية موضوع تجربة مختبرية يمكن التوثّق من أسئلتنا في شأنها بإجابات قاطعة، وقد ينوّع البعض في قراءاته وبحوثه مستعيناً برؤى فلاسفة وفيزيائيين -بل وحتى علماء رياضيات -، وغالباً ماينتهي به الأمر إلى مايشبه المتاهة الفكرية والوجودية.

أرى أنّ عبارة جبرا تنطوي على قيمة أثيرة من جانبين:

الأوّل وجوديّ يختصّ بتأكيد قيمة التجربة الفردية والرؤية الشخصية في مثل هذه الأسئلة الوجودية وعدم جدوى الإجابات الجمعية حتى في الحالات التي تكون فيها للتجربة الفردية قدرةٌ على ملامسة تجارب الآخرين والتجاوب معها.

أما الجانب الآخر فهو فلسفي خالص يؤكّد أهمية القيمة الميتافيزيقية لمعظم الموضوعات التي نادراً مانعيرها اهتماماً مناسباً ونحن في زحمة العيش ومعضلاته التي لا تنتهي، والقيمة الميتافيزيقية في عبارة جبرا تتصادى مع عبارة " أملٌ من غير تفاؤل " وهي عنوان أحد كتب الناقد الثقافي البريطاني تيري إيغلتون.

يمتلك الأمل سطوة في حياة المرء لأنه يختصّ بتطلّعات ميتافيزيقية الطابع، مثالها قطرتا الحلاوة اللتان سعى وراءهما جبرا ؛ في حين أنّ التفاؤل ينشأ من تحقق أهداف مادية الطابع ومشهودة مشخّصة على أرض الواقع، وهي في العادة أهداف قصيرة النفَس مصيرُها الذبول المحتوم ولو بعد حين.

(يتبع القسم الثاني)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram