اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > تراجع . . تقنية الحوار المتقشف والرهان على تجليات الصورة البصرية

تراجع . . تقنية الحوار المتقشف والرهان على تجليات الصورة البصرية

نشر في: 15 فبراير, 2023: 11:33 م

عدنان حسين أحمد

يقتنص المخرج السويسري ليون شُوِيتر ثيمة إشكالية لفيلمه الروائي الطويل الأول الذي انضوى تحت عنوان «تراجع». وعلى الرغم من بساطة هذه التسمية «الحقيقية» إلاّ أنّ تجلياتها المجازية تذهب أبعد من ذلك لتلامس الانسحاب والاعتكاف والعزلة وما إلى ذلك من اشتراطات النأي عن المجتمع والاحتفاء بوحدة الذات بعيدًا عن صخب المدينة، وضجيج الشوارع، وثرثرة البشر الفانين.

لابدّ من الإشارة أيضًا إلى أن شُويتر قد اشترك مع مايكل كارير في كتابة القصة السينمائية المُقتَضبة التي تضمنت حوارات ضئيلة لكنها خالية من الإسهاب أو الترهل، فالفيلم برمته يتكئ على عدسة الكاميرا ولا يُراهن كثيرًا على الكلام المنطوق إلاّ بالقدر الذي يوضح فكرة الفيلم الأساسية القائمة على مايكل “پيتر هوتينغر”، وهو زوج منفصل عن زوجته التي لم نرَها طوال مدة الفيلم، ولم نعرف أسباب الانفصال لكن ما يربطهما معًا هو ابنهما بيني Benny الذي جسّد دوره الطفل الموهوب دوريان هينيغر الذي تتوزع حياته بين الأبوين اللذين اختارا طرقًا متعاكسة لحياتهما، إذ قررت والدة “بيني” أن ترتبط بدومنيك فيما وجد مايكل عزاءه بالتراجع من جبهة الحياة الزوجية ومعقلها الحصين ونفّذ خطة انسحابه إلى جبال الألب النائية ومخابئها الحصينة التي يجب أن يقاتل فيها حتى النفس الأخير.

بنى شُويتر الهيكل المعماري لفيلمه بناءً رصينًا فهو يبدأ برحلة الذهاب إلى غابات جبال الألب وينتهي برحلة العودة منها بعد أن يحلّ المشكلة على الصعيد النفسي. أمّا الطبيعة وما تنطوي عليه من مناظر خلابة حتى في أشهر الشتاء القاسية فإنها ثيمة مؤازرة للقصة السينمائية ومُعززة للخطاب البصري الذي يحقق المتعة للمتلقي العضوي الذي يتفاعل مع المعطيات الجمالية التي تتوفر عليها لقطات الفيلم ومَشاهده التي برع فيها اقتناصها المصوِّر روبن أنغست.

تبدأ القصة بعطلة نهاية الأسبوع التي يصطحب فيها الأب مايكل ابنه “بيني” إلى بقعة مجهولة من جبال الألب السويسرية في محاولة يائسة لانقاذه من ضغوطات الحياة العصرية، فالأب منذ البداية يطرح نفسه كشخصية قلقة، مهووسة تحاول إنقاذ العالم من كارثة مناخية وبيئية وشيكة، فلاغرابة أن نرى الأب وهو يستمع إلى الأخبار من مذياع سيارته عن “مجموعة العشرين” G20 التي باتت تركز في السنوات الأخيرة على الكوارث المناخية والبيئية. كما نسمع الابن “بيني” وهو يخاطب الشجرة بوصفها واحدة من عناصر الطبيعة سائلاً ومُستفهمًا:”أيتها الشجرة، هل تعتقدين بأنّ العالم سينتهي؟”. فالخطر لا يُهدد الإنسان بمفرده وإنما يمتد إلى المعمورة برمتها بما فيها من حيوان ونبات وجماد، ويتعداها إلى الفضاء الخارجي الذي يُحيط بها من كل الجهات.

لم يشك الطفل بنوايا أبيه أول الأمر لكنه بدأ يتضايق من أوامره ونصائحه بعدم استعمال الهاتف النقّال إلى درجة الإدمان خاصة وهو يتابع فيديوهات مسابقة السيارات التي يحبها كثيرًا فيجرده من الهاتف لبعض الوقت ويلفت انتباهه إلى سقوط الثلج الذي بدأ يزداد كثافة ويغطي الأرض على مدّ البصر.

لا تخرج الحوارات المُقتضَبة بين الاثنين عن حدودها الاستفهامية التي يمكنها أن تُزيل بعض الغموض الذي يشعر به الأب تجاه ولده الوحيد، فالأب يريد أن يعرف إن كان ابنه على علاقة بصديقة ما مثل بقية الصبيان في سنّه أم أنّ مشاعره العاطفية لم تتحرك بعد، كما يسأله إن كان ما يزال متمسكًا بشغفه القديم في أن يُصبح عالمَ آثار ذات يوم أم أن رغبته قد تبدّلت الآن وصار يفكر بحلم جديد يداعب مخيلته المكتنزة التي تتجدد كل يوم.

يسعى الأب لأن يوجِّه عناية ابنه إلى معرفة النباتات واستعمالات البعض منها كالمريمية وسواها من الأعشاب التي تنمو في جبال الألب فيشعر بالقناعة والرضا لأنه يريد لابنه أن يُديم التواصل مع الطبيعة، ويتعلّم حياة الاكتفاء الذاتي من دون العودة إلى المنتجات الغذائية الحديثة لكنه نسيَ بأن بيته الريفي مليء بالمعلبات وقطع الحلوى والشكولاته ولا يمكن الاستغناء عمّا تنتجه الأسواق التجارية التي تغزو أبعد نقطة في الأرض. يُدرك “بيني” بأنّ الإجازة قد امتدت واستطالت من دون سبب، وبدأ يشعر بأن والده لا ينوي إعادته إلى أمه التي تنتظره على أحرّ من الجمر، ومع ذلك فقد ظل يُساير والده الذي لم يعلن صراحة بأنه ينوي البقاء في منزله القروي بعيدًا عن المقوِّمات الحضارية الجديدة.

لا تقتصر معرفة الصبي على الأعشاب والنباتات التي تنمو في الغابات وإنما يمتد إدراكه إلى الكواكب والنجوم فهو يعرف الدب الأكبر، والدب الأصغر، والنجمة القطبية الأمر الذي يُوحي لنا بأننا أمام صبي ذكي يعزّز مهاراته وخزينه المعرفي كل يوم فلاغرابة أن يتعلّم الرماية بالمسدس والتصويب بالقوس والنشّاب ويبرع فيهما بعد أن يُتقن قواعدهما وطرقهما الصحيحة.

يبدأ الاحتكاك الأول حينما يخرج الصبي من المنزل لوحده ويبدأ بتصوير بعض المَشاهِد من الغابة فيثير غضب الوالد الذي يأخذ منه الهاتف النقّال ويطلب منه ألاّ يفعل ذلك مرة أخرى خشية من إرسال الفيديو إلى أمه وبعض أصدقائه فرهانه قائم على تعزيز العزلة والنأي عن الأهل والأصدقاء لكن الابن ينخرط في البكاء ويشعر لأول مرة أنّ والده مُصر على مقاطعة الآخرين بشكل نهائي وربما يتضح الدليل بشكل نهائي حينما ثبّت الوالدُ الهاتفَ بشكل عمودي وطلب منه أن يصوب عليه بمسدسه وقد هشّمه من أول إطلاقه بعد أن تمرّن على الرماية وأتقنها بشكل دقيق.

تستمر إغراءات الوالد فيُريه برج مراقبتهم الجديد ويشرح له بأن الأنهار الجليدية كانت تصل إلى الأسفل حينما كان صغيرًا لكنها الآن انحسرت لأنّ الإنسان يدمّر الطبيعة ويلعب دورًا سيئًا في تدمير البيئة. يأخذ مع ابنه حمامًا في الهواء الطلق حيث يملأ البانيو بالماء الساخن ويسترخي مع ابنه لبعض الوقت بعيدًا عن الحمّامات المنزلية التقليدية. يختلق الأب أعذارًا جديدة للبقاء مثل زراعة الحديقة التي قد تستغرق يومين لا أكثر من دون أن يكترث بالدروس التي سينحرم منها الصبي. يتذمر الابن ثانية حينما يدعوه الوالد للخروج في رحلة صيد علّهما يتناولان لحمًا طريًا بعد بضعة أيام من أكل المعلبات لكن تذمّر الصبي يتضاعف فيدير ظهره للوالد ويغادر المكان غير أنّ الأب يمنعه ويعيده إلى المنزل بالقوة. يُصاب الأب بنزلة برد قاسية تجعله طريح الفراش فيهيء له الابن حساء ثم يُسخِّن له وجبة من المعلبات عندها يشعر الأب في قرارة نفسه أنه يُصادر حرية الصبي، ويجرّده من حقه الطبيعي في أن يختار الحياة المدينية التي يريدها وألاّ يفرض عليه قناعاته الشخصية التي لا تنسجم بالضرورة مع قناعات الابن الذي يمثل جيلاً مختلفًا قد لا يجد ضالته في التراجع من المدينة إلى بيت ريفي معزول في قلب جبال الألب النائية. ربما تكون أجمل مَشاهد الفيلم حينما يتراشق الأب والابن بالكرات الثلجية ويبددان عزلة المكان ووحدته القاتلة بالنسبة للصبي في الأقل عندها فقط يطلب من ابنه أن يلج إلى جوف السيارة ويعِده بأن رحلة العودة لن تكون طويلة هذه المرة وإذا أراد أن ينسحب من الحياة المدينية فعليه أن ينفذ قرار التراجع لوحده، وأن يعيش العزلة التي يريدها من دون أن يُشرك أقرب الناس إليه حتى وإن كان فلّذة كبده.

جدير ذكره أنّ ليون شويتر من مواليد لينزبورغ بسويسرا سنة 1994م. درس السينما في جامعة الفنون في زيورخ، وحصل درجة البكالوريوس. أنجز عددًا من الأفلام القصيرة من بينها “فكتور” و “ذيل الفأر”، أمّا “تراجع” فهو فيلمه الروائي الطويل الأول الذي فاز بجائزة غولدن ألكسندر في مهرجان تسالونيكي، كما عُرض مؤخرًا في مهرجان سولوتورن السينمائي في سويسرا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الرافدين يطلق رواتب المشمولين ضمن شبكة الحماية الاجتماعية

بالوثيقة.. التعليم توضح بشأن توسعة مقاعد الدراسات العليا

العدل تعمل على خطة تجعل من النزلاء يكملون دراستهم الجامعية

ارتفاع بمبيعات الحوالات الخارجية في مزاد المركزي العراقي

رسمياً.. أيمن حسين يوقع على كشوفات الخور القطري

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram