اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ضباب الأمكنة لـ زهير الجزائري..عن تحولات المكان وسيرة غائبة عن التدوين

ضباب الأمكنة لـ زهير الجزائري..عن تحولات المكان وسيرة غائبة عن التدوين

نشر في: 26 فبراير, 2023: 11:08 م

علاء المفرجي

أمكنة زهير الجزائري يغلفها الضباب، لا ينقشع منها، إلا لكي تتحول عن سيرتها الأولى، لكنها تحتفظ في الذاكرة بمكان ودلالة لاتمحى..

تحولات هذه الأمكنة تحتكم للذاكرة التي تختزن جغرافيتها ورائحتها، وتفاصيل أحداثها، فتغدو أمكنة أخرى درجة لا يعرفها الكاتب للوهلة الأولى، الا بالانخراط في عبقها.

المكان ليس بالضرورة هو المكان التاريخي الذي يعرفه الكثيرون، بل هو الذي يحتضن الذكريات ويمنحا خصوصيته، فالمكان الذي يزدحم بحيوات ويوميات غائبة عن التدوين، المكان هنا هو مكان سيرة مدينة كنص ومشروع بالتحول الذي يصيب المكان.

فالأمكنة هنا ما هي الا سيرة ذاتية للجزائري، تروي جانبا من حياته، جانبا ارتبط ارتباطا لا انفصام فيه مع تفاصيل الحياة، حياته، وما تثيره هذه الأمكنة من ذكريات، بل ومن رائحة، ألم يقل كازنتزاكي: «الأماكن تثير منخريّ».. ولعل تمكين عنصر المكان بمقدار من الاهتمام على باقي مكونات السرد يرجع إلى استلائه أقلام المبدعين وانجذاب القراء به وعلى ضوء المكانة الخاصة التي يشغلها المكان، يجدر التنبيه إلى أن حضوره، يمثل امتدادا طبيعيا لحياة الإنسان التي يجسد فيها المكان جزء الأكبر، مع شيء من التعمق، والتوسع، المتعلق بالمهارات والخصائص التي تزيد من اشتغاله.

يحمل المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة تربط الإنسان بقوامه المكاني، فيتفاعل كلمنهما مع الآخر،لتنشأ العلاقة المزدوجة بنتهما،فتكون في اتصال أحيانا وفي انفصال حينا آخر فيبسط المكان حركته على الشخصيات،ليدلنا على مدى الجدلية التي توليها اللغة في إطارتوظيفها داخل النصوص السرد.

لا تعطي دلالة المكان والزمن معنى،ولكن الأمر يتغير عندما يغذيها النص،فيجعل القارئ يدرك ماذا يقرأ وتتضح دلالة المكان والزمان فتتشعب إلى فهم الجغرافيا المحدودة لهذا المكان، والشخصيات التي هي رموز أو شارات يفهمها ويتجاوب معها القارئ وفق معالمها ومعطياتها ودلالتها وهذا بفضل تعدد المعاني والصور اللطيفة والقيمة الفنية التي يمتلكها السارد لوصف المكان.

عندما يستعين كاتب النص بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان، وأى مطابقة بينهما، هي مطابقة غير صحيحة، وما استعانة الكاتب بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقى.

يقول زهير الجزائري في مقدمة كتابه (ضباب الأمكنة) الصادر عن دار المدى: «أردت في هذا الكتاب ان اثبت بالكلمات واقعا هاربا ومن خلال الكلمات اعطي هذا الواقع معنى ما، المكان كان هاجسي ووسيلتي لكنه يهرب مني حين اغيب عنه او اعود اليه بين ذاكرة الصور وذاكرة الكلمات لو تأتني هذه الامكنة وحكاياتها وانا مستلق على قفاي، ولا هي اخترقتني وانا اسير في منفاي ساهياً عنها لكي اتذكرها وادرك وجوهرها الخفي ذهبت انا اليها وبالاصح غرزت راسي فيها ووجدت ان الامكنة ليست وجوداً شعرياً ساكنا. وحسب هي في جدل مع الزمن ومع ساكنيها».

المكان إذن كان يسكن رأس زهير الجزائري وهو في منفاه، يتذكره ويرسم له صورة متخيلة عما كان وما سيكون، تبدأ من انطباعه الأول عنه يوم كان يلازمه في الوطن، ثم يخضعه لصيرورة جديدة، أعني يعيد انتاجه وهو يطأه أول مرة، بعد سنوات الغياب المريرة، لتكون الصورة الجديدة، المحملة بالمتغيرات والتحولات الكبيرة فيه، فما يعطي المعنى للامكنة في هذا الكتاب هو مافيها من رموز وذكريات، انجذابات واتصالات، "بيني وبين هذه الامكنة كثير من الغموض هو بعض من ذاكرة المنفي المعطوبة، اعود للامكنة بوعي المنفي حيث التذكر يصبح هدفاً بذاته وليس مقدمة لفعل، ادرك الفرق بين زمن التذكر والزمن الواقعي المستذكر لكن الاحداث في العراق تقطع التمهيد والنهايات الحتمية وتغلب المباغت.»

فهذه البتاويين (مدينة الرحيل لا الأقامة) المدينة التي تقع في قلب بغداد الصاخب، والذي كان يوما ميدانا لشقاوة وحيوية الشباب الذي كانه، " في سنوات الامان المتوهم بين ١٩٧٥-١٩٧٩ سكنت مدينة الرحيل ثبت مكتبة على الجدار ولوحات لبيكاسو وماتيس ووضعت سريراً قرب النافذة ومددت ساقي باسترخاء وقلت لزوجتي: هذا بيتنا!".. تحولت من ذلك المكان الذي يرعى مغامرات الكاتب، الى مدينة غريبة عنه، "حين عدت من منفاي عام ٢٠٠٣ كانت البتاويين قد تحولت الى اخطر منطقة في العالم».

ويرى في جسر الجمهورية مساومة بين المتناقضات في داخله والمتعارضات "من الإذاعة والتلفزيون في الطريق اليه أزيح الزيف وكلمات النفاق وترسباتها وانتزع من قلبي دبابيس الكراهية لأصفو لنفسي كما أنا وأتهيأ لرفقة الثقافة والبوح في مقهى المعقدين." ليتحول في قائمة الأمكنة المتحولة، «ذات يوم انقطع طريقي على الجسر بجدار كوكريتي على ارتفاع مترين خلفه صفوف من الخوذ وحرس مدججون بالسلاح. كنا على الجانب الثاني وفي نهاية الشارع جدار آخر وسلسلة من الحواجز.. هناك تختفي السلطة التي تحكم البلد ولا تراه. ألصقت ظهري بحديد الجسرليمر موكب واحد منهم. الزجاج معتم بحيث نفترضه ولا نراه، بينما يراني هو والامكنة التي تختفي من أمامه بسرعة. يلتفت الى الخلف قليلا: أين رأيته، أين..؟

أما (الكرادة) هذا المكان الذي جسد التحول بصورته السوداوية، فمن السيروسط الزحام حيث يلتقط انطباعاته عن حركة المدينة بنشاط وحيوية، ليتجلى التحول بأنفجار كبير يحرق نصف أسواقها، "أراهم الان وهم باناقتهم القديمة يراقبون الشارع بنظرات خائفه، السيارات المفخخه هزت امانهم وافلت زجاج الواجهات شظايا عكست شكل البضائع للمرة الاخيرة وهي تشق الفضاء مع الانفجار افلت منهم المكان وافلتت الفته.»

ويُنسى الاسم القديم (كرادة مريم) ليصبح المنطقة الخضراء، ينسى تماما الشوارع والمحال والبيوت في هذه الكيلومترات المربعة العشرة قبل أن يسيجها الأميركان بعد 2003، «أسيجة الكونكريت تقطع بصرنا وذاكرتنا عن المكان الذي اغترب عنا».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram