اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > تجلّيات المكان وسحر المدينة في أعمال الفنّان العُماني موسى عمر

تجلّيات المكان وسحر المدينة في أعمال الفنّان العُماني موسى عمر

نشر في: 26 فبراير, 2023: 11:13 م

كريم سعدون*

يحضر المكان في الفنّ عبر استعارات متعدّدة، بعضها شكلياً، إذ يعتمد المحاكاة والمطابقة وأخرى عبر منظومة ترميز، يعمل الفنان على تفكيكها واجتزاء ما يشكلّ منها،

بناءً جمالياً لمنجزه الفنّي، الذي يبتعد به عن المألوف بصرياً، ما يُحمِّل بنيته بقوّة مخيالٍ، قيماً جماليةً، جديدة، لكي تفتح أفقاً واسعاً للتأمّل فيه.

يتّسم هذا الحضور بمرحلة ما، برغبة الفنّان في اجتراح توجّها أسلوبياً، فيوجّهه الى حيث، يكون منجزه الفنّي متميّزاً من طريق إثراء موضوع بحثه، وفي ما يتعلّق بالبناء الشكلي الملائم له. وكلاهما، (الموضوع والشكل)، يتآلفان ويتطوران فيأخذان صيغتهما الراكِزة، عبر فهم الفنّان لطبيعة الإنجاز الفنّي واكتناز التجربة بحسّ التجريب المستمر ولذة الاكتشاف.

تكون لدى المتلقّي المهتمّ بمتابعة حضور المكان في الفن مثلاً، امكانية ملامسة تجربة حيوية، تمتلك دائماً حضوراً مستنداً، إلى رغبة عميقة في التجريب والبحث عن مفردات قابلة للتشكلّ والانسجام في بناء العمل الفنّي ومفرداته، ومثالنا هنا، هو، تجربة الفنان العُماني موسى عمر الذي يُعدّ من أكثر الفنانين العُمانين والعرب حضوراً في محافل الفن العربي والعالمي، ومعروفاً عنه اشتغالاته المتميزة باختيار مواده بعناية وتفرّد.

ولغرض معاينة هذه التجربة عن قرب لا بدّ من الوعي أولاً بطبيعة المنجز الفني العُماني، المشترك به فنانون كُثر على تأكيد مسألة التي، شغلت فنانّي المنطقة العربية طيلة عقود، وهي تخصّ كيفية التعامل مع مفهوم الهوية في الفن، وكذلك تمثّلها، إذ يبدو، أن إنجاز فنانيه، يتوزّع بين معالجات الواقع ومحاولات مجارات المنجز الفني في المنطقة، أو التطلّع الى الوقوف على تطوّرات الفن المعاصر في العالم. لا تخلو تلك المحاولات من اجتهادات شخصية متقدمة، عملت وتعمل بواقع تجريبي لبناء تجربة تتميّز بين التجارب المجاورة وتنافسها عن طريق تأكيد حضورها.

يمتلك الفنان موسى عمر رؤية بصريّة نافدة وقدرة على فرز المفردات البيئية المحلية الأكثر غنى وقدرة على اجتذاب التشكيل البصري المّثير للتأمّل، بسبب التنوّع الغنيّ، الذي تتّصف به البيئة العُمانية من جهة، وصعوبة الاستعارة، التي تكمن في البحث عن المفردات الجمالية التي تمتلك قيمتها في تشكلها الجمالي في أي عمل فنّي من جهة أخرى، فالملاحظ هنا، هو استثمار الفنّان موسى عمر، في مادّة (الخيش) بشكل خاصّ، وهي مادة معروفة بحيازتها لبنية مرنة، يشكلّها الفنان وفقاً، لِما يريد بناءه، وذلك لامتلاكها حيوية القماش، إضافة إلى بنيتها الشكلية إساساً، ما تسهم بتوفير ملّمساً؛ يثيرُ بصر المتلقّي، كما لا يتوقف عند استعماله لها كمادّة خامّ فحسب، بل يدخلها في مخبر اشتغاله، مضيفاً عليها مفردات، يستلهما من مشاهدات يومية لجدران المدينة مثلاً، وهي تكوّن بؤرة تختزن دلالات ترتبط بذاكرة الناس وثقافتهم كما في ذاكرة الفنان بسبب وجودها الشكلي. يجعل الفنّان لوحته مزدانة، بنسق لونيّ مستمدّاً من مجاورات لونية بيئية، وهكذا، تزدان ملونته بالوانٍ صريحة ومتوهّجة وعليه، تبدو البنية الشكلية لأعماله غنية لونياً ومشبعة بحسّ الطفولة النقية مقتربة من بناءات الشكل الحر.

والمتأمّل لمنجز الفنان عمر قد يجد حضوراً لطَيفٍ من معمار المدينة بشكل خاصّ، التي احتضنت نشأته: فالتداخل في بناء مساحات العمل الفني لديه وعلاماته المتنوّعة تجد لها حضوراً في بيئتها الأمّ، فتبدو البيوت، وقد فَرضَ عليها نمط العيش فيها، تجاوراً، يشي بالحميمية والقرب، والممرّات التي تمتدّ بينها، والجدران التي أصبحت طرساً لذاكرة الناس، كما وآثار لعب الأطفال، إضافة إلى مرور الزمن عليها. إنّ هذا البناء الشكلي لأعماله يحتّم قراءة مستمدّة من تجلّي حقيقة المدينة ونوع المكان، الذي يستعيد بنيته بمعزل عن ساكنيه، وفي ذات الوقت ينسج روحاً لمكان يعجّ بالناس عبر العلامات المنتقاة، فوجود مثل تلك العلامات المكانية لاتمنع من حضور ساكنيها ليس بصرياً فحسب، إنّما في الذاكرة أيضاً، حيث علامات تتحدّث نيابة عنهم. للفنان القدرة على الايحاء بوجود حياة في المكان، وفي المدينة داخل العمل الفني، لأنّ مخياله المحمَّل بالكثير من تلك العلامات المحلية الدّالة، قد حوّله، إلى وعاء ممتلئ بخطاب يتنقّل فيه بين واقع المدينة والحلم بها، كمكان وهذا الخطاب يتشكّل، كما رأينا سلفاً، من خلال وضع مادّته البصرية بكل استعاراتها تحت آلية الاشتغال في مخبره منشغلاً دوما بتفكيكها وفرز العلامات الأكثر تقبّلا، لتقويلها والتي تمكنه من تشكيلها بمرونة في بناء جمالي يحافظ فيه على روح المدينة وسحر موجوداتها، وكأنّه يريد أن يخبرنا بأنّه، يريد الحفاظ على تفاصيلها، بل محاولاً دائما القبض على لحظاتها الشاردة، وهكذا نجد في ذلك كلّه تشيدا لحوارٍ روحي يتعلّق بمدى قدرتنا على الحفاظ على النقاء الذي تمتلكه الأمكنة وعلى الأسرار التي تحويها.

يعتمد موسى عمر في بناءات أعماله الشكلية على قدرة المواد التي يضعها على سطح العمل الفني ويجعل من اٍمكان تآلفها مُيَسرا ذا حيوية على تقديم اِراحة بصرية ذات قدرةِ على الامساكِ بلحظة تواصل جيدة مع المتلقي، ولاٍمكانية تلمس ذلك يمكن تصنيف المواد الخام التي يستعملها في تعزيز البناء الشكلي لسطح عمله، وهي مواد فيها ما هو خام، ويملك دلائل أصالته مثل (الخيش) وأنسجته، ومواد مصنّعة وهي تلك الألوان التي تختلف مكوناتها بحسب طبيعة تدخّل الفنّان في اظهار مايريد، وكذلك باختلاف المواد اللاصقة، اولاشكال المرسومة التي تمتلك رمزيتها في وجودها وحركة توزيعها على السطح. إنّ اشتغالات الفنان وتقنيته في الاظهار تكمن فيها امكانية تفعيل وجودها الكامل الجديد، وهي قد اشتركت في بنية تركيبية متنوّعة، وهذا هو ما يتلمسه المتلقّي والمهتمّ بالفنّ ومنجزه، وذاك هو المغزى من عملية التأمّل.

يعمل الفنان على استعارة مكوّنات عمله، كما ينظّم وجودها على سطحه، وهكذا، يحمّلها ما يريد قوله فيها، وقد حاول تكيفها للحوار المكثف الذي يتوخاه منها، أيّ إنّه أدخل مكونات عمل الفني، في لعبة فنية تعتمد استحضار منظومة ترميز مستعارة ومنتقاة، مزيحاً فيها كل مايمت بصلتها الى الواقع ومحملاً اياّها حلمه بها، وهو الحلم الذي ينتشي بوجود دلائل مكانية تنتمي إلى الفنّان وتستقل بوجودها وتستحيل على يديه إلى بناء شكلي يحتفظ بقيم الجمال.

ولا بدّ من القول أنّ السّمة الأسلوبية لمنجز الفنّان، تتحرّك باستمرار الى آفاقٍ جديدة من بناءات تتشكّل تبعاً لتقدم التجربة وتوسع مدياتها مستندة إلى سعة اِطلاعه على المستجدّ في العروض الفنية دولياً، فالاعمال التي يعرضها تخلّت عن الإطار التقليدي الذي يحدّ من مساحة العمل، بل، هو، قد تخلّى أيضا من الحدود الهندسية التي تثقله، وعليه، لم يتقيّد بها، فأصبح الشكل يتمدّد وفقا للمادّة المستخدمة وبحرية تضفي على أعماله سِمة تميّز واضحة. لم تعدّ تهمّ المتلقّي لأعماله، أسئلة من نوع المعاني في اللوحة، وذلك لأنّ الاشتغالات التقنية فيها والقيم الجمالية، تشغله عن ذلك من طريق الاستمتاع في تتبع مساراتها داخلها.

*فنان تشكيلي عراقي، السويد

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram