طالب عبد العزيز
ليس بمقدور أحدٍ من أسرتنا تحديدَ وجودنا الاول في المدينة، أو القول بأنَّ جذورنا تمتدُ الى أوائل العرب المسلمين، الذين دخلوا البصرة بعد فتحها سنة(14 ه) مثلما لا يتمكن أحدٌ من تأكيدِ تأريخ حياتنا على أيِّ ضفة من شط العرب، في المدينة الجنوبية، قبل التاريخ ذاك.
وكنت بحثتُ في أمهات الكتب عن جذر أعتمده، فلم اهتد لشيء، مع كوني، وبحسب سلسلة الاجداد الجدَّ الثالث عشر لآل عبد العزيز، في الارخبيل الرطب هذا. لكنني، حين أتفرس في صورهم، ووجوه الاحياء منهم، أخلص الى أننا لا محالة قادمون من بطون وظهور شتّى، فأرى العربيَّ الموصوفَ عند الجاحظ بـــ (السمرة وشكل الانف والشعر شبه الجعد) وأرى الفارسيَّ في (البياض أو الحمرة..) والهندي في (السمرة والشعر المرسل الاسود) وأرى شيئاً من زنوجة عند بعضهم في فطس الأنف ونتوء الفكين وجعدة الشعر. إذْ، لا يحقُّ لأحدٍ منا استبعادَ ذلك، فالمدينة التي تنفتح على البحر ولا تنغلق على الصحراء تحتمل المنقلبَ ذلك كله.
لكنَّ أبويَّ يُصرّان على أنني ولدت في أحد أيام الربيع، يوم زار الملكُ البصرة، إلا أنَّ الوثيقة الرسمية تشير الى أنني ولدتُ في الثاني من حزيران سنة 1953، في يوم تتويج ملكة انجلترا اليزابث الثانية، وبعد ثلاثة اشهر من وفاة الزعيم الروسي الاحمر جوزيف ستالين. ولعلني جئت الدنيا، بعد انطفاء آخر سيجارة بين اصبعيِّ أبي، أو لحظة اقتصت يدُه من السماء قوسها الرطب، فكنتُ آخرعرجون في بيته، بغابة النخل التي كانت متاهته... ترى، هل أنا بحاجة الى معرفة التاريخ هذا؟ وأي معرفة تافهة هذه، وقد طويتُ عقوداً ستةً ويزيد؟ وأيُّ خيبة تلك، التي تطردني حقيقتُها، وتوهمني بكرنفالات الكعك والحلوى، وسط حشد من الأبناء والاحفاد والاسباط في يوم ميلاد كاذب.
إنْ أردتُ الحديث عن النشاة والبدايات التقليدية، التي تُلزمُ كلَّ متحدثٍ عن نفسه، فسأقول كلاماً معاداً، ومعاراً من قولنا مكروراً عن ماء الولادة، وعن أقران الصبا في الزقاق، أو عن النهر حيث ولدتُ، وعن المدرسة، والحبيبة التي منعتها أمها من اللقاء بي.. وهو كلام سأقع فيه تحت طائل المبالغة في التهذيب، والحرص على الإتيان بالسلوك الحسن، وإضفاء الصفات الجميلة، والأخلاق الحميدة وما شابه وشاكل ذلك.. وهو لعمري، كلام لا اجدني خليقاً به، ولا متقرباً اليه. لكنني، أقطعُ وعن يقين، بانني كنتُ بطفولة مازلت أقتفي آمادها في الحدائق والمصابيح الزرق، ويلتفُّ حبرُها على اصبعي، وبسنوات صبىً، أحسدني عليها، فقد البسني أبي- على ضيق ذات يده- سراويلَ القطن، وقُمصَ الحرير، وأطعمني اللذيذ على خوانه، وأسبغ عليَّ من انفاسه أرقَّها وأعطرها، وقبل أن يموت كان قد أخلعني ثوبين: الحبَّ والحياء.
وفي العودة للطفولة أجدُ الكثير الخالد في الذاكرة من عالم مدرسة السراجي الابتدائية، المشيدة في عشرينات القرن العشرين، إلا أنَّ نشرة الحائط المدرسية، التي كان يخطها معلم العربي صبري الدغمان، الشيوعي، العائد من الجزائر آنذاك كانت الاجمل. هذا العاشق لعبد الحليم حافظ، الذي أطلق على إحدى نشرات الحائط تسمية(القناديل) فرسم الأف واللام والالف دموع الشمع على القاف واللياء والنون، ولكي يجعلها أجمل فقد صفَّ خلفها صفين من الشموع المضيئة، على جانبي شارع غير منته. عندما كبرت تذكرت أنَّ صبري الدغمان كان يغني في لحظاته السعيدة أغنية عبد الحليم حافظ (ضيِّ القناديل) كلُّ زملائي الذين كانوا معي لا يتذكرون منه إلا حذاءه الفرنسي، الاسود اللماع، وهو يترنم به في ممر المدرسة الطويل، قادماً من غرفة المعلمين، إلا أنا فلا أتذكره إلا مع دموع الشمع وضياء القناديل وعبد الحليم حافظ.
أشعر أحايناً، بأنني أبالغُ بتعلقي بالمكان، حياةً وكتابةً، ربما أخذُ البعضُ التعلق ذلك نقيصةً، وفقراً كتابيَّين، ولا أخفي أنني بتُّ أعيبُ على نفسي إفراطها بحديث الأرض والشجر والماء، لكنني، والحقَّ أقول: لا أجد حياتي خارجَ الانهار والعالم الاخضر هذا، حتى أيقنتُ بأنَّ الجبل والغابة والمطر وعين الماء والطائر في السماء الزرقاء ووو..هي من تدعوني لها مسافراً وشاعراً، وتحرّضني على الكتابة بعد أنْ عزَّ عليَّ معاينتها في محيطي، بأرخبيل القهر الجنوبي، الذي راح يفقد جغرافيته تباعاً. وأنَّ ما كانت تقوله الجبال والاشجار والقرى في الغابة السوداء لهيدجر لا يختلف عما كانت تقوله غابة النخل والفاكهة والاشجار لبدر شاكر السياب، أو لسعدي يوسف، وربما لي أيضاً، فقد ظل سعدي مثلاً يؤثث قصائده بمفردات الغابة تلك، حتى ساعاته الاخيرة، على الرغم من تغرّبه الطويل في الاصقاع، وإذا تجرأتُ وقرّبتُ حديث الشعر منّي، فسأقول بأنني لا أجد حياتي خارج العالم هذا، بل هناك أكثر من وشيجة تشدني اليه، حتى لتبدو غريبةً كلُّ كلمة اخطّها ما لم أجد معادلا لها فيه، هكذا، مثلما كان هيدجر يرى بأنَّ العمل الفلسفي لا يتم بعيدا عن وسط عمل الفلاحين.
جميع التعليقات 1
ٍٍ Saiyd Munzir
أقرأ احياناً بعض مقالاتك اجدك الاصدق في التعبير عن الذات الاصدق بالنسبه للكُتّاب العراقيين والعرب حسب مطالعاتي لكن الذي استغربه انك لازلت تعتقد في الشيوعيه طريق لبناء الدول والمجتمعات ...