اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كارل بوبر: بحثٌ لم ينتهِ .. سيرة ذاتية متعشقة بالاستكشافات الفلسفية والثورات الفكرية للقرن العشرين

كارل بوبر: بحثٌ لم ينتهِ .. سيرة ذاتية متعشقة بالاستكشافات الفلسفية والثورات الفكرية للقرن العشرين

نشر في: 28 فبراير, 2023: 11:44 م

لطفية الدليمي

منذ قرابة عقدين من السنوات وقراءةُ كتاب في السيرة الذاتية صارت تقليداً ثابتاً أحرصُ عليه . قد لا أقرأ رواية أو مسرحية أو كتاباً فلسفياً أو علمياً لبضعة أسابيع ؛

لكنْ لايمكنُ إلا أن يكون في قائمة مقروءاتي كتابٌ يتناول سيرة ذاتية (أو سيرة أحياناً) منشورة حديثاً بلغة إنكليزية أو عربية.

أظنُّ أنّ منبع الاهتمام الفائق بأدب السيرة الذاتية يكمنُ في حقيقة أننا كائنات مصيرها الانطفاء بعد حين قد يطول أو يقصر، وتزخر الفترة الزمنية بين لحظتي الولادة والانطفاء بصراعات وتحوّلات فكرية ومفاهيمية لايمكن تحصيلها إلا بمشقة، وليس من المنطقي أو المعقول تركها تذبل وتذوي في قعر النسيان مع غياب صاحبها عن مسرح الوجود البشري. تدوين السيرة الذاتية بهذا السياق هو نوعٌ من محاولة ترك بصمة في هذا العالم فضلاً عن كون هذا التدوين ينطوي على فعل كرم وطيب روح: أنت تسعى لتمرير خبرتك المتحصلة بمشقة إلى آخرين بطريقة أشبه بخبرة جاهزة لتوفّر عليهم بعضاً من الأثمان الفكرية التي يمكن تجاوزها. ثمة أمرٌ آخر: يتاحُ للمرء في العادة وهو يدوّن سيرته الذاتية الافصاح عن وقائع وقناعات فكرية وأطروحات مفاهيمية ربما ماكان متاحاً له الافصاح عنها في أماكن أخرى.

كلّ هذه التفاصيل نراها متجسدة في السيرة الذاتية التي نشرها فيلسوف العلم كارل بوبر Karl Popper عام 1976 بعنوان بحثٌ لم ينتهِ: سيرة ذاتية فكرية

Unended Quest: Intellectual Autobiography

صدرت الترجمة العربية لهذه السيرة الذاتية عام 2022 عن دار المدى. تأخّرت الترجمة العربية كثيراً وبخاصة أنها لفيلسوف منهج علمي ذائع عالمياً ؛ أعني بذلك مبدأ قابلية الدحض Refutability وقابلية التكذيب Falsifiability، وهما المبدءان اللذان يميزان كل معرفة علمية حقيقية عن معرفة زائفة (أو آيديولوجيا إذا شئنا الحديث بلغة منهجية البحث العلمي) ؛ لكن يبدو أنّ دور النشر العربية رأت في هذه السيرة الذاتية كتاباً ثقيلاً عسيراً على بلوغ مستويات قرائية مقبولة. تمكّن بوبر في هذه السيرة الذاتية من تعشيق وقائع سيرته مع الخط التطوري للفلسفة العلمية، ولاننسى في هذا الشأن أنّ بوبر أكبر من فيلسوف علم ؛ فهو مؤرخ وسوسيولوجي ذو إلمام واسع بالرياضيات والفيزياء والموسيقى والتعليم.

أعترف أنّ قراءة سيرة بوبر الذاتية عمل شاق بمثل ماهي فعالية منعشة للعقل، ويبدو أنّ بوبر حدس بطبيعة موضوعاته التي تنطوي على قدر غير قليل من التعقيد المفاهيمي فارتأى أن يوزّع السيرة على موضوعات قصيرة بعناوين محدّدة حتى لاتتحوّل الوقائع المتداخلة إلى كتلة صلبة غير متجانسة تثقلُ كاهل القارئ غير الصبور وغير المتمرّس بأدبيات فلسفة المنهج العلمي. توزّعت السيرة على أربعين جزءاً قصيراً (يتراوح الجزء الواحد بين خمس وعشر صفحات) أتبعها بوبر بتذييل عن الماركسية. الكتاب بمجمله لايتجاوز الثلاثمائة صفحة إلا ببضع صفحات ؛ وبهذا فهو مما يمكن قراءته بهدوء ومتعة. يمكن للقارئ أن يختار مايشاء من أجزاء بغير ترتيب مسبق من غير أن يتوجّس من ضياع السلسلة الفكرية لأجزاء السيرة.

تتناول الاجزاء العشرة الأولى جوانب من طفولة وشباب وتعليم بوبر في المدرسة والجامعة، ثم تعقبها أربعة فصول عن الموسيقى ؛ أما الفصول المتبقية فتتوزع بين موضوعات فلسفية محدّدة (مثل: نظرية المعرفة ومنطق الاكتشاف العلمي، الواقعية ونظرية الكم، الموضوعية والفيزياء، المجتمع المفتوح وعقم المذهب التاريخي). يتناول الجزء الثلاثون نقاشات بوبر مع الفيزيائي اللامع إرفن شرودنغر، وثمة أيضاً موضوعات فيزيائية ذات إشكالية فلسفية كبرى (مثل: الانتروبيا وسهم الزمن)، ولن ننسى بالطبع زيارة بوبر الاولى إلى الولايات المتحدة ولقاءه مع آينشتاين. إنها سيرة ذاتية حافلة بأطايب الامزجة الفكرية والاستكشافات الفلسفية.

يرسم بوبر في فصل (التأثيرات المبكرة) صورة حية عن الجو الذي نشأ فيه: " كان الجو الذي نشأت فيه مليئاً بالكتب. كان والدي الدكتور سيمون سيغموند كارل بوبر، مثل شقيقيه، دكتوراً في القانون في جامعة فيينا. كان لديه مكتبة كبيرة، وكانت هناك كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام حيث كان هناك بيانو حفلات ضخم...... كان هناك العديد من أعمال باخ وهايدن وبيتهوفن وشوبرت وبرامز..... كان والدي مهتماً جداً بالفلسفة ؛ فمازلت أمتلك من مكتبته أعمال أفلاطون وبيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وكانت وشوبنهاور..... كانت الكتب جزءاً من حياتي قبل وقت طويل من تمكني من قراءتها...... ". لن ينسى بوبر الاشارة بتوقير خاص لكتاب (مغامرات نيلز الرائعة) للكاتبة السويدية اللامعة سلمى لاغيرلوف.

يوجّه بوبر نقداً شديداً لمدرسته الاولى المعروفة بالجمنازيوم، وعلى عكس توقعنا بأنه كان طالباً متفوقاً في مدرسته فقد فكر كثيراً بترك المدرسة وتركها بالفعل ليعود لاحقاً ويلتحق بالجامعة. كانت المدرسة بالنسبة له مكاناً لإضاعة الوقت بشكل صادم ويبعث على الملل لأقصى الحدود المتصورة: " كان هناك موضوع واحد فقط لدينا فيه معلم مبدع وملهم حقاً، كان الموضوع هو الرياضيات..... عندما عدتُ للمدرسة بعد مرض إستمرّ لأكثر من شهرين وجدتُ أنّ صفي لم يحرز أي تقدّم تقريباً ولاحتى في الرياضيات. كان هذا الحدث نقطة فارقة أنارت بصيرتي وجعلتني أتوق إلى ترك المدرسة..... ". أرى أنّ بوبر في هذه الموضوعة يضع إصبعه على مسألة إشكالية شديدة الخطورة ؛ إذ لطالما قرأنا أنّ معظم صنّاع الفكر والثقافة كانوا ممّن يميلون للتعليم الذاتي ولم يكونوا يتوافقون مع النُظُم المدرسية التقليدية. ترك بوبر المدرسة لاحقا وعمل نجاراً، ويصف تجربته الحِرَفية لاحقاً في سيرته بأنها كانت مصدر عون فكري عظيم له لأنها كشفت له عن أماكن من الفكر لم يكن ليستطيع بلوغها في سياق تطوره الاكاديمي التقليدي.

نشأ بوبر ماركسياً، وعَدَّ الماركسية دوماً أحد المعالم المفصلية في تطوره الفكري، ثمّ أدرك بعدئذ أنه إنما كان يطاردُ حلماً يوتوبياً جميلاً، وهو يصفُ هذه المغامرة الفكرية بالعبارات الحاسمة التالية: " بقيتُ اشتراكياً لعدة سنوات حتى بعد رفضي للماركسية، وإذا كان من الممكن وجود شيء من قبيل الاشتراكية مقترنة بالحرية الفردية فكنت سأظل اشتراكياً ؛ إذ لاشيء يمكن أن يكون أفضل من عيش حياة بسيطة وحرة في مجتمع قائم على المساواة. استغرق الامر مني بعض الوقت لأدرك أن هذا ليس أكثر من حلم جميل، وأنّ الحرية أهم من المساواة، وأنّ محاولة تحقيق المساواة تعرّض الحرية للخطر، وأنه إذا ضاعت الحرية فلن تكون هناك مساواة حتى بين غير الاحرار.... ".

كان بوبر في فورة شبابه في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الاولى بكلّ أوزارها الثقيلة، وهو يصف تلك السنوات وصفاً درامياً رائعاً: " لم نكن حينها سعداء، ولم يكن لدى معظمنا آمال أو خطط ؛ فقد كنا نعيش في بلد فقير للغاية.... كنا في معظم الوقت مكتئبين ومحبطين ومشمئزين ؛ لكننا كنا نتعلّم، وعقولنا نشطة وتنمو. كنا نقرأ بشراهة ونهم ونتناقش، ونغيّر آراءنا... كنا نستمع إلى الموسيقى ونذهب إلى الجبال النمساوية الجميلة لنتنزه، ونحلم بعالم أفضل.... ".

بوبر شخصية فكرية متعشقة الاهتمامات، وللموسيقى نصيب عظيم في تطوره الفكري، وهو عندما يتحدث عن الموسيقى فهو يقرن الرؤى الفلسفية بالمعرفة الموسيقية تاريخاً وتقنيات. من الوقائع المثيرة التي يذكرها بوبر ويستفيض في شرح تفاصيلها هي تفضيله باخ ووضعه في مقام أعلى من بيتهوفن وفاغنر: " شعرتُ أنّ بيتهوفن جعل الموسيقى أداة للتعبير عن الذات، وبالنسبة له في يأسه ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة له للاستمرار في العيش.... شعرتُ أن ليس هناك خطر أكبر على الموسيقى من محاولة جعل طرق بيتهوفن مثالاً أو معياراً أو نموذجاً.... ".

السيرة الذاتية لكارل بوبر عملٌ جليل فخم زاخر بالمتعة العقلية الفائقة لأنها نتاجُ عقل فلسفي رصين يعدُّ أحد أعمدة فلسفة المنهج العلمي الذي طوّر أسسه في كتابه المرجعي (منطق الاكتشاف العلمي)، كما ترك لنا كتبا مرجعية أخرى (مثل: المجتمع المفتوح وأعداؤه) أودعها ذخيرة عقله الشغوف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. زهراء

    نترقب مقالاتك بشغف استاذة لطفية ،شكراً لك على هذه النبذة

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram