حيدر المحسن
الجواميس تعوم ولا يبين منها غير غلالة سوداء يرسمها موج متراكض. يا لها من مخلوقات ساحرة، كأنه يراها أوّل مرة! إن هيئاتها الضّخمة بالإضافة إلى اللّمعة الآسرة في عيونها تحفر في دمه حنينا يكاد يبكيه، وهي تنظر إلى جهة لا يعرف مكانها بالضّبط.
هل هي السّماء أم النّهر أم أرض الحقل الذي يمتدّ فسيحا في المكان؟ الجاموس مخلوق حكيم، لو أنه تبادل معه الرّأي في أمور حياته ربما أشار له بالحلّ، وهذا ما لم يفعله أقرب الناس إليه. لمح حركة من بين جذوع الأشجار أعادت إليه التفكير في وضعه الحالي، وجاءته رشقة من إطلاقات ناريّة كأنما من أماكن متفرّقة، ثم حلّ صمت شامل بعد تبدّد صدى إطلاقته الأخيرة، ومن جهة النّهر هبّ نسيم نديّ. لا يريد أن يموت وألوان جواميسه تملأ عينيه، ولا يريد أن يموت عدوّه كذلك. إنه في الحقيقة لا يريد أن يموت أحدٌ في العالم. آنذاكَ تحركت في قلبه صبوةٌ أن يتصالح مع غريمه.
"يا حسين" نادى بأعلى صوت "هل يمكننا أن نلقي السّلاح ونتفاهم؟".
سمع الصدى يتردّد في الفضاء. صاح ثانيةً، متودّدًا هذه المرة.
"أنت صديقي وابن عمي، أنت أخي. منْ يصدّق أننا نتقاتل منذ الأمس؟".
مرّت لحظات سعيدة وهو في حال سلام كامل مع النفس، سلام يسع العالم كلّه:
"لا داعي للقتال، يمكننا أن نحتكم إلى أيّ أحدٍ تختاره".
دوّت رصاصتان في الجوّ ما إن انتهى من كلامه، ولم تصبْه لحسن الحظّ لأن إحداها كسرت غصن شجرة الصّفصاف الذي يمسّ صدغه، بينما أصابت الثانية جذعها. إن لدى حسين إرادة إجرامية موجّهة نحوه، فهو يرفض الصّلح بتاتا. علا صوت أذان الظّهر من جامع القرية، وفكّر في أن يطلق النار، ويجري في أثناء ذلك بطريقة الحبْو على أربع إلى الجامع ليؤدي الصلاة، لكن الأمر سوف يفسّر بأنه فرار من المعركة، وهذا يعني الجبن، والموت أهون بكثير من أن يوصف به. حاول أن يناور في مكانه، فزحف مسافة، وتسلّق جذع شجرة، وركض وهو يطلق النّار، ووجد نفسه بعد حين جنبا إلى جنب مع حسين الذي لم يكن متوقّعا هذا التّبدّل في الحال. رفع غريمه بندقيّته وتأهّب لإطلاق النّار، لكنه كان أسرع وهو يُفرغ ما تبقّى في مخزن مسدّسه من طلقات في رأسه.
عصفت ريح قادمة من جهة النّهر في تلك اللحظة، وتدحرجت جثّة القتيل واستقرّت نائمة على جانبها الأيمن. هو ابن عمّه بكلّ بهاء وجهه، حاجباه مقرونان كأنه يفكّر، ووجهه طفوليّ ويغطّي خديه زغب متفاوت. إنه يبدو مستغرقاً في النوم وبه حاجة غامضة إلى اليقظة. في لحظة، سوف يستنشق الهواء بقوة، وتعود الحياة إليه. هل يتكّلم؟ وإذا تكلّم، ماذا يقول، وكان هو السبب وراء هذه الكارثة؟ يا لعناده وسوء خلقه...
كانت الظّهيرة ساطعة والحقول تمتدّ فيها وفيرة. زحف ضياء الشّمس على جسد الفتى وثيابه ملوّثة بالوحل والدّماء تصبغ شعره. رصاصتان غائرتان في الرّأس، وأخرى تثقب عنقه. ثمة دخان كثيف يتصاعد من أحد المصانع القريبة، وعلى الأرض بدأ النّمل يتجمّع حول سيل الدّماء الحمراء النقيّة. فراشة سوداء الجناحين راحت تتوغّل في العشب. سكنتْ. فتحت جناحيها وضمّتهما بحنان آسر، وفتحتهما ثانيةً وضمّتهما. الفراشة مرسومة بالقلم ذاته الذي أبدع الجواميس. الرّياحُ تهبّ رماديّة من حوله، وشعور بالغيظ والضّيق يخنقه. حاول أن يتمالك نفسه ويكون طبيعيّا أمام مشهد الموت الذي يراه أول مرة. رفرفت الفراشة بجناحيها وابتعدت، وفي تلك اللّحظة علا صوته بالبكاء، وشقّ نشيجه أرجاء المكان.