د.حيدر الجوراني

تُعد صناعة السينما مرآة تعكس مزايا عديدة، إذ تُقدم مستوىً نَوعياً من إنتاج المَعرفة المتقدم للمجتمعات المُنتجة للأفلام، و تُسهم تلك الأفلام في معالجة مشكلات المجتمع و إعادة إنتاج الحلول لها.

مُجريات الأحداث السياسية و الأمنية الأخيرة في ديالى ذكرتني بإنها كحاضرة مملكة أشنونا شهدت أول إنتاج وتنفيذ فيلم سينمائي في بعقوبة عام 1961. ولِحُسن حظي أني إلتقيتُ يوماً ما بعض الذينَ شاركوا في التمثيل من رموز ديالى الثقافية كحسين ناصر و سعدون شفيق سعيد و غيرهم. أما بُطولة الفيلم فَكانت للدكتور سعدي يونس بَحري إبن الرحالة والإعلامي العراقي العالمي يونس بَحري صاحب برنامج " هنا برلين حيا العرب" في حُكومة هتلر.

تم تصوير الفيلم في محطة قطار بعقوبة ومناطق أخرى في المدينة، يُبين الفلم الواقع الجَميل و المؤلم بآن واحد. يعالج سيناريو الفيلم قضايا عدة منها تمثل جدليات ثقافية و إجتماعية لدى الرأي العام في الوقت الحاضر، لكن الحُبكة الأبرز هي حالة الصراع لدى البطل "مَحمود" بين إنقاذ حياة "جَميلة" من الغَرق وبين اللِحاق للوصول إلى محطة القطار كعامل فيها لوجوب فَتح سكة القطار المُحمل بالنفط في الساعة السابعة وإلا سَينحرف وينفجر وتِلكَ مُصيبةُ أُخرى.

و بالرغم من أنَ الزَمن قَضمَ الفيِلم من الذاكرة، لكني صًمتُ مَبهوتاً حينما شاهدته. فَتَحَشرجت في نَفسي أسئلة كثيرة في إِحتضارٍ الأجوبة. و عَصَفت أيضاً في ذهني فهماً مُجتمعياً سائداً تتجسد تَمثلاتهُ بتنمر ساخر بين سُكان المدينة و سكان الريف في العراق.

عُربان ..أو عُربي بِضَم العَين، هكذا يُصَنف المُتحَضِرون من سُكان المُدن إلى الريف، بَيدَ أن المُصلح العِلمي عربانُ لفظاً ومعنى Urban يعني أولئك السُكان الذين ينتقلون من الريف إلى الحَضر ويندمجون فيه. من هنا أثارت مشاهد الفيلم وصورة التَداخل بين طبيعة البساتين و التخطيط العُمراني لبعقوبة آنذاك حواراً داخلياً لدي حَول هل ديالى وأنا المُترعرع فيها ذات طابعاً ريفياً كما هو الإنطباع السائد عنها؟ أم ماذا؟

ببساطة، و بالرغم من مساحتها الجغرافية الشاسعة، لا توجد فواصل بين المُدن و الريف في مُحافظة ديالى، وهو ما يُمكن توصيفهُ بإنها ذات طبيعة ضواحياتية الجغرافيا بين ماهو Urbanization و Suburbanization أي أن المُجتمع الديالي ديموغرافيتهُ متشابكة بين هذين الوصفين.

يبدو أن هذا التوصيف إنسحبَ على إشكالية هوية ديالى السياسية الضائعة منذ تغيير النظام بعد 2003، لا لإنها حاضنة لجميع الإثنيات و العِرقيات بتناظر نسبي و متداخل جغرافياً فَحسب، لكن الإسقطات الفلسفية لتركيبة نظام بعد 2003 تختلف جَذرياً من محافظة إلى أخرى في العراق.

ولكي أبني لطَرحي قاعدة واقعية هنا، لابدَ من الإنطلاق من أن سيادة فواعل الإسلام السياسي السني – الشيعي هي الأبرز في المَشهد الديالي، لكنها تعاني من ضَياع هويتها السياسية وفقاً لجذورها الزمكانية ضمن نطاق ديالى كجغرافيا حسب مرجعياتها السياسية. فالواضح أن الفاعل الإسلامي السياسي السني في ديالى تنتابه تَبعية سياسية لهويات محافظات أخرى تَسعى جاهدة لحل عقدة " الزَعيم- المُكون". و هو الأمر الذي يُعانيه بَعض ممثلوا ديالى من النَظرة الفَوقية لهم من قبل نُظرائهم في التحالفات والاحزاب من تلك المُحافظات مما يُربِك الإنسجام أثناء العَمل السياسي فيَحدُث التشظي غالباً.

أما الفاعل السياسي الشيعي في ديالى، فإشكاليتهُ لا تتَجسد بسبب التَبعية السياسية لمحافظاتٍ في الجَنوب ذات الفاعل السياسي الشيعي الغالب، لكن إشكاليتها تَكمن بِغياب المُشاركة في ما يُسمى بالإنتفاضة عام 1991 لأنها في ديالى لم تَشهد ذلك تأريخياً. وهُنا لابد من الإشارة إلى رواية مَفادُها إلى أن آيةُ الله العُظمى السَيد عبد الكريم آل السيد علي خان المدني كان قد أبدى رأياً بالمُكوث السَلمي لتَجنب الفتنة لبَعض الناس الذين إستأنسوا بالإستفتاء إليه آنذاك لطبيعة و خصوصية محافظة ديالى.

بَعيداً عن الخطاب السياسي الشَعبوي والإنطباع السائد عن تَطييف الصراعات الحالية في ديالى سَواء أكانت سُنياً أم شيعياً، تشير بعض البحوث العلمية الحَديثة إلى أن الطابع الجغرافي النوعي المُتراوح ما بين الريف والمدينة و كذلك البُعد الزَمكاني (Spaces) للمُجتمع يَلعبان دوراً مُهماً في تَشكُلات الهَوية السياسية وهو ما يُبرر الحاجة الماسة إلى إقرار هوية سياسية لديالى كحَيز مُجتمعي و جغرافي خاص مختلف عن باقي محافظات العراق، كما أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن الإنقسام السياسي Political cleavage)) ذو صلة بالعامِلين المَذكورين سلفاً وهو ما يَجعل حالة التَشظي بين فاعلَي الإسلام السياسي في ديالى متناظرة مع فارق الإنعكاسات على المشهد السياسي و الأمني.

لا يُراد سياسياً إلى هذا التَشظي في الفواعل السياسية في ديالى إلى أن يطفو على سَطح مَكتب الطبقة السياسية، حتى وأن مُورس التضليل السياسي لإحتوائه، إلا أن خروج هذا التَشظي عن إرادة رموز تلك الطبقة أمراً يُربك قواعد لعب النظام بالكامل و تَحديداً في ديالى يَستدعي حلولاً بمَفاتيح يونامية كما تَفعل بلاسخارت في بعض الإنشقاقات السياسية العَنيفة .

لا يُراد القول بإن جذر إشكالية المشهد هو فراغ هوياتي سياسي نتج عنه بزوغ الهوية السياسية العشائرية والتي ستزيد من ذلك الإنقسام و التَشظي رغم التَعتيم الزبائني. لذلك، السياسة كَالسينما، صناعة و إستثمار وليس إستئثار و تَحشيد شعبوي مَقيت، أما قطار الساعة السابعة فما زالَ بتوقيت بعقوبة السياسي على وَشك القدوم. " وصاح الريل وآنه وياه """ يعت بِيهَ و أعتنه".