اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > المبنى.. والمعنى

المبنى.. والمعنى

نشر في: 5 مارس, 2023: 10:39 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

في عام 1979 صممت المبنى الإداري لمحطة كهرباء الناصرية، عندما كنت متعاوناً مع مكتب صديقي عبد الأمير الربيعي.

وفي بدء الثمانينات اكتمل تشييد المبنى، لكني لم اراه منفذا قط، ذلك لان الانتهاء من البناء تزامن مع بدء الحرب العراقية – الإيرانية المجنونة، واعتبر الموقع مع مبانيه المتعددة منطقة عسكرية، لا يمكن زيارتها، كما لا يمكن، بالطبع، تصويرها. وعندما وضعت الحرب اوزارها، لاح امل في إمكانية (الآن)، ان أرى المبنى واقعياً واصوره. لكن ذلك الامل ذهب ادراج الريح، بغزو صدام لدولة الكويت، ما جعل من زيارتي الى هناك لرؤية مبناي، امرا صعبا، غير قابل للتحقيق. بعد ذلك تم اخراج القوات العراقية، ولاح امل جديد في رؤية المبنى إياه، بيد ان الأمور المتزامنة مع انتفاضة الجنوب ضد النظام الديكتاتوري التي أعقبت «غزوة» الكويت حالت، مرة أخرى بعدم إمكانية زيارة المبنى.

انتظاري لفرصة مواتية آخرى لرؤية مبناي، تركت، انا، العراق للعمل في الجامعات الأردنية في منتصف التسعينات، مما جعل من إمكانية زيارة المبنى امرا بعيد المنال! وبسقوط النظام الشمولي، في 2003، بدت وقتها إمكانية رؤية المبنى أخيرا، لكن هذا لم يحصل ايضاً، اذ عندها كنت قد وصلت الى الدانمرك!

واثناء زياراتي المتعددة لبغداد، نصحني اصدقائي، عندما ابديت رغبة في زيارة وتصوير المبني، بعدم السفر الى الناصرية في مثل تلك الأوقات، لتعقد الوضع الأمني، وعدم تفهم الاخرين لحقيقة طلبي. وعندما اخبرت صديقي شاكر الناصري المقيم معي في كوبنهاغن (وهو ابن الناصرية)، بكل تلك "الآمال المجهضة"، وعدني ان يوفر لي صورة لذلك المبنى "العتيد" وقد اوفى، وارسل لي صورة عن المبنى، كما قام احد المهتمين السينمائيين بتصوير المبنى وارسل هو الآخر صور له.

لقد ذكرتني صورة الصديق الناصري. وكذلك صور السينمائي العراقي، ذكرتني بالهواجس التصميمية التي كنا فيها في نهاية السبعينات. وفيها تظهر محاولتنا لان تكون عمارة المبنى متكاملة ومتسقة مع تصميم الفضاءات الخارجية، التي من المفروض ان يطل عليها المبنى الإداري في هذه الجهة، ذلك لان الجهة الآخرى مكتفية بإطلالتها على نهر الفرات العذب!، وهي تتضمن نوافير بأشكال متنوعة ونظام مدروس لأساليب التشجير والخضرة في الموقع. ويبدو، انها، مع الأسف، قد تم تغييرها، الآن، بالكامل، وبصيغة فجة! ليس لها علاقة بما تم تصميمه وحتى تنفيذه في وقت من الأوقات، كما تظهره الصورة المنشورة.

لكني بعد تلك الفترة الزمنية الطويلة اود ان اعبر بما كنت تواقاً اليه من افكار تصميمية، معربا في كلمات عن "المبنى" المشيد، و"معناه"؛ وآمل بان نشر ذلك الآن، سيثير اهتمام بعض القراء لجهة محاولة تكريس الافكار التصميمية المتوخاة وتطبيقاتها في هيئات واحياز واقعية. واليكم التفاصيل:

يتألف المبنى اياه من اربعة طوابق، وهو مخصص للفضاءات الادارية الخاصة بالمحطة الحرارية لكهرباء الناصرية. ومخطط مسقطه النموذجي عبارة عن ممر وسطي تقع على جانبيه احياز المبنى. ولاجل اعطاء حركة "ديناميكية" لكتلة المبنى ذات الشكل الهندسي البسيط، فقد تم "سحب" كتلة السلالم" من جسم المبنى نحو الخارج، وتم اكساب هيئتها شكل <اسطواني> مختلف عن اشكال جسم المبنى العام، زيادة في اضفاء عناية لافتة الى كتلتها الهندسية وحضورها المميز ضمن مفردات الواجهة.

تم ايلاء اهتمام كبير لعناصر الواجهة الامامية والخلفية، وخصوصا الامامية التى تُرى حالما يجد المرء نفسه امام مبنٍ ينطوي على طوابق متعددة، وكان هذا الارتفاع "العالي" حدثاً غير شائع في بيئة مدينة الناصرية وقتها عندما تم تصميم المبنى.

لقد سعيت، كمصمم للمبنى، ان تكون لغته المعمارية ليست فقط لافتة للنظر، وانما تكون لغتها التصميمية متساوقة مع احدث النزعات التصميمية في المشهد المعماري العالمي. من هنا اهتمامي الكبير بان يكون منجز المعمار العالمي الشهير "لوي كان" (1901 -1974) حاضرة في صياغة المناخ التصميمي لواجهة المبنى وعناصره، ومشغولة بـ "تناص" Intertextuality ملحوظ، هو الذي اثرى منتج العمارة المعاصرة بمفاهيم فلسفية، لا تزال تثير قدرا من الاهتمام والانتباه الواسعين. فمقاربته المعروفة في <فصل> وتجزئة عناصر المبنى الى "خادمة" و "مخدومة"، والاعلاء من القيمة الهندسية للاشكال، فضلا على ولعه المعروف في تأويل موروث منتج العمارة الاسلامية وتطويعه ضمن اشتراطات "الحداثة"، كل ذلك كان بالنسبة اليّ مبررا كافيا "للاتكاء" على مسعاه التصميمي لبلوغ حالة من استكناه "عمارة" رأيتها.. مميزة، اجترحتها في مبنى الناصرية.

واذ اشعر برَضٍّ تصميمي جراء ما انطوت عليه لغة عمارة المبنى من "اميج" لمبنى حداثي، فقد كنت تواقاً، ايضاً، لان تكون البيئة المبنية في الناصرية تحديداً (بكونها تمثل "اطرافاً")، حاوية ومتضمنة لمثل مواصفات تلك العمارة. ذلك لاني، (وانا المولود في "الاطراف") من "انصار" توسيع رقعة نماذج العمارة الحداثية، وبالتالي <فرش> الاهتمام بالثقافة المعمارية في كل انحاء بلادنا، وخصوصا في "الاطراف" منها، وعدم ابقاءها في "المركز"، كما يذهب البعض لدواعٍ الحصول على "شهرة" واسعة!

واذ حازت عمارة المبنى الاداري في الناصرية على رضى بصري من لدن منتسبي المحطة وزوار المبنى، واثارت فيهم نوعا من احاسيس جمالية وقدمت احيازها لشاغليها اضافة الى ذلك قيمة منفعية ووظيفية عاليتين، فان هذا يبعث لدي شعورا سارا واحساسا عميقا بان هدف ما كنت اطمح اليه، في ذلك الوقت البعيد، قد تم تحقيقه.. بنجاح!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram