ستار كاووش
لا يضاهيها في الرومانسية سوى الوردة، ولا ينافس جمال نورها سوى ضوء القمر. لا تكتمل السهرات الجميلة بدونها ولا ترتجف أيدي العاشقين دون المرور برقتها وأناقة حضورها. إنها أحد مفاتيح المحبة التي تجعلنا نقول لمن نحبهم ( أشعل أصابعي شموعاً لك)
وهي نافذة الأمل التي نُرَدِّدُ من خلالها أمام يتذمر باحثاً عن مبتغاه (بدلاً من أن تلعن الظلام، إشعل شمعة) وهكذا تعددت القصص والحكايات والحضور الآسر للشموع وصارت جزءً من حياتنا وتاريخنا، إنها الضوء الذي يحبه الجميع، وهي الرقة التي ينشدها كل محب. فمن أين جاءت هذه الشموع اللطيفة ومن أين بدأت حكايتها؟ وهل مازالت تسعد القلوب وتُعطر الأماكن بالغبطة الهادئة المهيبة، وهي تعكس ضوئها على وجوه المحبين وتغمرهم بالفرح وتهديهم لحظات لا تُنسى؟ يعود إستعمال الشموع الى أوقات بعيدة جداً، حيث إستعمله شعب توسكانا (الآن ايطاليا) قبل الميلاد بمئات السنين، حيث كانوا ينقعون حبلاً في القار أو الزيت أو الشحوم، ويشعلونه للإضاءة، وهناك دراسات تشير الى أبعد من هذا التاريخ، حيث أُستخدمَ الشمع في العراق القديم (وقد إستعمله العراقيون أيضاً كمادة للحفاظ على الجلود والمنسوجات) كذلك أستخدمت الشموع في أماكن العبادة في الصين، وقد عُثر أيضاً على نوع من الشمعدانات في مقبرة توت عنخ آمون التي تعود الى أربعة قرون قبل الميلاد. لكن النقلة الكبيرة في تطور الشموع حدثت في القرون الوسطى، حيث تم استعمالها على نطاق واسع وأصبحت هي المصدر الرئيسي للإضاءة. وتكونت وقتها نقابات لتجمعات صانعي الشموع التي كانت رخيصة وغير مكلفة لأنها تصنع من بعض أنواع الدهون والشحوم، وهي لا تحترق بشكل جيد وكانت لينة وتصدر الكثير من الدخان والسخام ورائحتها غير طيبة، وكان يجب قطع نهاية الخيط المتفحمة من وقت لآخر. وقد تطورت صناعة الشمع مع مرور الوقت. ومع إستخدام شمع العسل صارت نوعيتها مدهشة، وهذه كانت إنتقالة مهمة وخطوة الى الأمام في صناعة الشمع. ثم حصلت الإنتقالة الأخرى في نهاية القرن الثامن عشر، حيث منح صيد حيتان العنبر بديلاً مذهلاً للمواد التي تُصنع منها الشموع، حيث يتم تحضير مادة دهنية من رأس حوت العنبر، وهذه في الغالب تكون من الأنواع الأغلى ثمناً والأفضل نوعاً.
وهكذا مرت الشموع التي نراها اليوم في كل مكان، بمراحل عديدة حتى تم التوصل الى صناعتها بالطرق السهلة والانتاج الوفير. ومع كل الإنعطافات والتغيرات التي حدثت، حافظت الشموع على مكانتها الرومانسية والنفعية آلاف السنين ، ومازالت ليومنا هذا تُقابل بنوع من الرقة والمودة التي لم تخفت أبداً، رغم إختلاف الأماكن وتعدد أهداف الإستعمال. فهناك شموع العشاء الطويلة الرشيقة التي تقف ممشوقة على الطولات مثل فنار يرشد المحبين، وكإنها تستدعي طول الليل وتشير الى بقاء السهرة، وهناك شموع حفلات أعياد الميلاد، التي تكون صغيرة وتجتمع على كعكة، وتُطفأ عادة بالطريقة الشهيرة التي يعرفها الجميع، فيما تبدو شموع الكنائس (غالباً الكاثوليكية) وقورة وهي تُوضع أمام القديسين وترسل ضوئها الخافت بجلالة وهيبة. وأنواع أخرى من الشموع التي تشير الى مناسبات ووظائف مختلفة وجميلة.
وهكذا تمضي الشموع بثقة وتؤكد يوماً بعد آخر مكانتها الجميلة والرومانسية. وقد إمتدت هذه المكانة والأهمية الى كل متعلقات الشموع وما يصاحبها، مثل الشمعدانات التي تحولت الى أعمال فنية حملت مواصفات الفترة التي صُنعت بها، مثل الكلاسيكية والحديثة والآرت ديكو وغيرها، حتى تحولت الى ما يشبه المنحوتات الصغيرة التي تبهر النظر بزخارفها وتفاصيلها وطريقة تنفيذها التي جمعت مواد ثمينة مختلفة، وتكون النتيجة نماذج مذهلة تنتصب فوقها الشموع، وهي تعلن عن الجمال غير المحدود الذي يقدمه مُحبي الإبداع ومبتكري الجمال. وهناك أيضاً طفاية الشموع التي تكون بشكل مخروطي ومصنوعة عادة من النحاس أو البرونز، وتُمسك من خلال ساق رفيعة وتوضع على لهب الشمعة لأجل إطفائها. وهناك أيضاً نوع من المقصات التي تقطع فتيل الشموع بعد الإطفاء، وله شكل مميز وكإنه عملاً فنياً جميلاً.
ولا يمكن أن ننسى الشمع الذي دخل في الفن وصنعت منه أعمالاً مذهلة تستقطب ملايين الناس للتمتع بها، مثل التماثيل الباهرة التي يعرضها متحف الشمع في مدن عديدة حول العالم. وما دمنا بصدد الحديث عن الفن، يمكننا أن نُشير الى الفنان الهولندي العظيم ريمبرانت ولوحاته ذات الضوء الساحر التي إستعمل الشموع غالباً أثناء رسمها، لإضاءة وجوه الموديلات والشخصيات التي كان يرسمها. كذلك كان الفنان الاسباني المجدد غويا يضع مجموعة كبيرة من الشموع المشتعلة فوق قبعته أثناء الرسم، وبذلك تتضح اللوحة أمام عينيه أكثر، كلما إقتربَ منها وبدأ بالرسم.
سأشعل شمعة هذا المساء وأضعها على الطاولة بمثابة تحية لمن أحب. وسيكون الأمر مدهشاً حين يختار من يقرأ هذا الموضوع شمعة ويشعلها لمن يحب. قد تكون شمعة صغيرة لكنها سوف تقول الكثير.