اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > من يصنع مادة الزمن؟

من يصنع مادة الزمن؟

نشر في: 7 مارس, 2023: 11:05 م

لطفية الدليمي

وا أسفاه يازهرة الشمس التي أضجرها الزمان

يامن تعدّين خطوات الشمس

وتاريخ الزمن

باحثة عن ذلك المناخ الذهبي العذب

حيث ينتهي المطاف برحلة المسافر

وليم بليك

ينهمر الزمن دفق شلال جارف، يصنع مصائرنا ويرصد خطواتنا ثم يغافلنا ويتخفى في إهاب زهرة او رعشة ريح أو شهقة امرأة، زَلِقٌ ومراوغ كزئبق، مخادع ولئيم، شحيحٌ وساخر من ضعفنا إزاءه، نطارده ويطاردنا ويحتل ثغرات أرواحنا الراعشة، موكولٌ لازدهارنا وذبول الأهواء فينا، حاكِمُنا المؤبد وسيّد الأمكنة، كلنا مغلولٌ إلى جبروته، لانفلت من سطوته إلا بولوج فتنة الحلم، الحلم بلا زمن ولامنطق ولا حدود ومنه وفيه نجد جُلّ حقيقتنا، نعجن فيه ماضينا ورحيق حاضرنا وماسيأتي من شهوات القلب، الحلم سبيلنا المفرد لتحمل ضنى عبور الزمان ومتاهات الأمكنة وتضاريس الاحداث، من لايحلم ينتهك الزمن روحه كل آونة، لا أصدّقُ من يدّعي عدم الخوف من الزمن وهو لا يحسن مقاربة الحلم؛ بل أن ذلك الذي لايحلم هو أشدّ الناس رعباً من جبروت الزمن.

كل خلية في أجسادنا تتخلق في بوتقة الزمن وخليط العناصر وتموت بفعل الزمن، كل علامة على جباهنا وحول شفاهنا التي تضحك وتنطق بالجميل والثمين والعابر والزائف رسمها مرور الزمن المستخف بنا، غضوننا وترسيمات العبوس والغضب والدهشة صنعتها اللحظات المترادفة وهي تعبرنا وتتركنا في وحشتنا متجهة الى أبديتها.

ليس من شيء أشد عداء لنا من الزمن، وليس من أمر أكثر حميمية منه لمخيلتنا، يقف الزمن حارساً لتقلباتنا ومحفزاً لتغيراتنا ومهيجاً لأهوائنا، شاهِدُ النضج والعجز والخرف، محرّضُ الفناء على اختراق متاريسنا التي من وَهْمِ اعتدادنا بأنفسنا، يرسل طلائع الموت سراً إلى أجسادنا المزدهية بوهمِ قوتها، ويسترخي في كهوف الكون أو يتراكض بأقنعته بين المجرات ويضحك طويلاً من خديعتنا بأحجية الخلود التي نصب كمائنها على منعطفات العصور، لانحن نصدق حقيقته ولا يكفُّ هو عن إيهامنا بما ليس فينا وماليس فيه، نتقبله كأنه توأمنا المتخفي، ظلُّنا وقريننا الذي يلازمنا ويرسم أقدارنا ونحن نتغافل أو ندّعي الغفلة إزاء تدابيره المحكمة، نخادع أحلامنا ويقظتنا لعلنا نقطف المزيد من مادته الزئبقية ونحوز ساعةً تُضاف لأعمارنا الفانية؛ ومع هذا نحبُّ هذا العدو اللئيم المراوغ الذي يساكننا طويلاً ثم يهدرنا في لحظة محتومة.

امرأة الطبيعة تحتل المستقبل

في كتابها الممتع والأصيل حول امرأة الطبيعة (نساء يركضن خلف الذئاب) تقول المحللة النفسية (كلاريسا بنكولا إيتس) عن علاقة المرأة البرية بالزمن:

تعيش المرأة البرية في قاع البئر، على سطح الماء، في الأثير قبل الزمان، تعيش في الدموع والمحيطات، يسمع أزيزها من لحاء الشجر وهو ينمو، إنها آتية من المستقبل وفجر الزمان، تعيش في الماضي وتحضر عندما نستدعيها، تعيش الحاضر وتأخذ مكانها على مائدتنا (...) وتوجد في المستقبل

هكذا هي المرأة البرية الاولى التي تحتل مستويات الزمن وغالباً تملك مفاتيح المستقبل وتنوجد فيه كما تنوجد في الماضي.

أراغون قال (المرأة مستقبل الرجل)؛ لكن الفيلسوف شبنغلر سبقه الى اعتبار المرأة هي المستقبل، تشير الى الغد بجميع أفعالها الحيوية وعرافتها وسحرها وأنوثتها ونورها وعتمتها، قال في كتابه الكبير " تدهور الحضارة الغربية ": (المرأة عرافة بالفطرة، ليس لأنها تعرف المستقبل بل لأنها هي المستقبل). نساء شبنغلر العرافات والولودات واللاتي يقضين في المخاض والحروب وكاهنات الحب والساحرات والمشعوذات يمْثُلْن في مسافة الرؤيا،في المستقبل، الذكور المتحكمون بالزمن التاريخي غايتهم في حروبهم المرأة – المستقبل، يوقعون عليها أفعال معاركهم من سبي واغتصاب؛ فكيف تردُّ النساء على تاريخ الرجال الملطخ بدماء أبنائهن؟ يستدعين الماضي ويحكين القصص والرؤى وتهيمن براعاتهن السحرية على الحاضر بالفن والحكاية والشعر الذي يمدُّ الزمن ويطيله فيجعل الحاضر كثيفاً وممتلئاً بالمعنى. امتلاك المعنى يعني الامساك بالزمن ووعيه، المرأة المتحضرة خضعت لتدجين الزمن العادي ونسيت عرافة جداتها البدائيات اللائي امتلكن ناصية الازمنة كلها، الفن يساعد، يعين ويفتح للمبدعة والمرأة البرية منافذ الزمن وفضاء الرؤيا لتعود سيدة للمستقبل والزمن.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلمنا بمقولة الفيلسوف (كانت) عن استحالة تعريف أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمن في تساؤلاتنا. وضع (كانت) أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وماعاد موجوداً، والمستقبل هو مالم يحن أوانه بعدُ ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخلب إلا الحاضر وهو ليس الوقت كله لكنه الزمن الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يقول القديس "أوغسطين": الزمن هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان أو كما يقول برغسون:

(أن لاوجود للماضي ولاللمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وأنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأن الآنية ليست من طبيعة الزمن وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمن الفيزيائي هناك الزمن النفسي " الديمومة". وفي الديمومة من حيث هي الزمن الذي نحياه ونشعر به، وحين لانبحث فيه لايتصف بالآنية و إنما يختلط فيه الحاضر بالمستقبل والماضي. هذه الأزمنة الثلاثة لا تتوالى و إنما هناك زمن واحد يختلط فيه كل من الحاضر والمستقبل والماضي. الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في نفس الوقت على المستقبل. كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة، هذا هو الزمن قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا و يفككه إلى لحظات متمايزة.)

الزمن عند هايدغر هو مايحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمن يقذف الإنسان باستمرار وهو ماجعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لايعني الخضوع للزمن وإنما أن يقذفك الزمن دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، و يكون عليك الاختيار وتبرير الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

عصر البراءة المتخيل

الأبدية شَغوفةٌ بأعمال الزمان.

وليم بليك

قيل في أساطير بعض المعتقدات أن الانسان نُفي من عهد البراءة المزعومة. -هل كان ثمة زمن بلا آثام؟؟- حينئذ سقط من الزمن إلى المتاهة الكبرى - الحياة ووجد نفسه بلا دليل ولا علامة تأخذه إلى طمأنينة القلب، ومالبث - بعد أن أثقلت كاهله رحابةُ الحرية والزمن اللانهائي - أن وضع نفسه طوعا منذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا في قفص التاريخ وشرع يدون الايام ويقسم المواقيت، صار أسير الزمن المحدود المقنن بعد ان كان سيد اللانهاية وحاكم الزمن السائل الدفاق يغترف منه بلا حساب ودون محاسبة من التقاويم وماتبعها من أغلال، صار الانسان أيضا رهينة البيت الذي استعبده بالاستقرار المريح والبليد في أحيان كثيرة، وكان يتساءل بدافع وجودي محض : لماذا يستقر المرء في المكان والزمان والحياة تتبدد كل آونة؟

مراراً كرّر المتمردون السؤال ومراراً جوبهوا بالخذلان من سادة الوقت وأهل السلطة.

تمثل الحركة في الامكنة نوعاً من تحدٍ للزمن، ويعين التجوال والترحل في جهات الدنيا على تمديد الزمن الذي يضيع ويتبدد من بين عيوننا. البابليون كانوا سادة زمنهم حتى ظهر الههم الدموي مردوخ قاتل الأم الاولى تيامات ربة الماء المالح - التي القى عليها شباكه الفولاذية وقطع أوصالها ليصنع منها جغرافية ممالكه ثم اقتنص الزمن كما تخبرنا قصيدة الخليقة ال (إينوما ايليش) او (حينما في العلى) كيف قسم مردوخ الزمن وسيطر على دفقه العشوائي:

صنع مردوخ منازل للآلهة

خلق الابراج وثبتها في أماكنها

حدد الأزمنة: جعل السنة فصولاً

ولكل شهر من الاشهر الاثني عشر

ثلاثة ابراج حدد الايام بأبراجها

في الوسط ثبت السمت

والى الشرق والغرب فتح بوابة

وسلط القمر على الليل

وجعله زينة في الليل

به يعرف الناس موعد الأيام

في بدء الشهر يطل القمر

يحدد الأسبوع. بعد اسبوعين، في نصف الشهر

يواجه الشمس يكون بدرا

ينحسر ضوء الشمس عن وجهه، يصفر

يدركه المحاق، يعود ثانية..

وبهيمنة عبادة مردوخ بدأت السلطة الذكورية الدموية في بابل ترسخ نظامها وعنفها بهيمنتها على الزمن.

الاستبداد والزمن

المستبد لايحتل المكان حسب بل يمسك بالزمن ويمتلك الايام والتقاويم ويغير فيها مايشاء ويفرض أعيادا ومناسبات تخص زمنه وسلطته حتى ليتحول تقويم البلاد إلى ملكية خاصة لكل قوة متسلطة في زمنها؛ فيعمد المهيمن على السلطة الى الاستعانة بأساطير واحداث الماضي التي تتداخل في متون التاريخ ويفرض الماضي كشأن قائم يحتل الحاضر ويسيره ويتحكم فيه، وبهيمنة الماضي وشخوصه ومفرداته على الزمن المعاش، ينسحب الحاضر ويتوارى وتدور دائرة الزمن ضد طبيعتها الكونية الاولية، تستعاد احداث الامس وطقوس الخرافة وينزاح زمن الحاضر وراء سلطة الماضي، ويؤمن المستبد – سواء كان واحدا او جماعات ذات عقيدة ما - أن السيطرة على الزمن تعني السيطرة على الامكنة والبشر.

حقق استخدام الاسلحة البدائية كالرماح القصيرة وكرات الصخور المقذوفة والسهام سيطرة المحارب التابع للحاكم على المسافة - المكان، ثم عزز اختراع العجلة هيمنة الاباطرة على المكان والزمان معاً وبدأ توسع الممالك والاقطاعيات باختراع العجلة وصنع العربات مما دفع بشهوات الاستبداد قدماً للاستيلاء على البلدان وإيقاف الزمن ولو شعائرياً.

صانعو أساطير سومر كانوا يعانون من نوستالجيا تؤرق حاضرهم، سكنهم الحنين الجارف إلى حقبة فردوسية في (جنة دلمون) حيث الزمان الأول قبل ان يفسد الوقت بتتالي القرون عندما كان كل شيء بريئا وطاهرا في جنة أولية لاتزال فيها الانسانية والمخلوقات الاخرى تحبو في مسيرة الكينونة ووعي الزمان، وقد أسس اهل سومر ذاكرة شاسعة لتلك الحقبة الجنينية وعمدوا إلى الحلم باستعادة تاريخ البراءة حيث الاسد لايفترس الحمل والانسان لايشيخ والثمار لاتفسد، وفي ظني أن اختراع ذلك الحلم الفردوسي كان محاولة للنجاة من العماء الأولي الذي تقول به الاساطير الأخرى وهي تهددهم وترعبهم بفكرة العدم وعشوائية التكون.

التحرر من سطوة الزمن

اسمعِ الصوت

اسمع صوت المغني!

الذي يرى الحاضر، والماضي، والمستقبل

وأذنه سمعت الكلمة المقدسة،

التي سرت بين الأشجار العتيقة

منادياً الروح المرتدة

وليم بليك

عندما اكتسح الهيبيون ساحات وحقول اوروبا واميركا في نهاية الستينيات ومقتبل السبعينيات وأقاموا احتفالات الحب الحر والموسيقى في الهواء الطلق وعلى ضفاف الانهار كان أول رد فعل على مناهضتهم لمجتمعاتهم المتكلسة المحنطة في تقاليدها انهم استهلوا احتفالاتهم بالتخلص من ساعاتهم التي القوا بها في الانهار،كان المشهد مفعماً بأحاسيس التحرر من قيود الزمن والأمكنة والتقاليد الخانقة.

سعى المتصوفة الى محو الزمن الارضي والتحليق في الزمن المطلق على الضد من صانعي اساطير سومر الذين كانوا يعانون من نوستالجيا شجية لزمن فردوسي أرضي في (جنة دلمون) يحاولون استعادته ويكابدون المستحيل في تمثله من جديد فكان أن ألّفوا المراثي والحكايات عن تلك الحقبة المفقودة من فردوسهم الذي سكن الذاكرة وحفز الحلم، كتبوا على الطين المشوي تلك الاساطير لعلها تخفف من سطوة هذه النوستالجيا وتلطف حرقة الحنين لزمن البراءة الغابر حيث كان الاسد يرعى مع الحملان وحيث لامرض ولاشيخوخة والكائنات تحتفظ برونق الفتوة والصحة في ذلك الفردوس الذي يتوقف فيه الزمن عن ملاحقة الجمال وتبديد الشباب وتفجير العنف والضراوة بين الكائنات، زمن بريء من كل سوء، وفي انتظار الحلم المضيّع عمد السومريون إلى ملء الزمان والمكان بالمنحوتات والابتكارات العظيمة، بأغاني المهد وتراتيل العشق والتعبد والرقص وقصص الخليقة والتحليق بين النجوم، أدركوا في لحظات الاشراق القصوى أن رثاء الحاضر والتوقف عند تشهي الفردوس المفقود سوف يبطئ حركتهم في الزمان والمكان فلامسوا لحظة الابدية ضمن انشغال كوني تجسد شعرا وابداعات فنون.

يخبرنا الشاعر المكسيكي النوبلي اوكتافيو باث أن زمن (مابعد الحداثة) هو الزمن بلا قياس، ينعدم فيه التفاؤل والحلم بالمستقبل الذي كرست الحداثة عبادته. زمن مابعد الحداثة لايقترح فردوساً ولايتيح مدى للحلم به إنما يعترف بالموت لكنه يعانق فكرة كثافة الحياة، وفي البرهة ذاتها يتصالح الجانب المظلم والمضيء في الطبيعة الانسانية، وفي تلك اللحظة عندما تنعتق الساعات من المحددات يسير الزمن وفق ايقاعه الخاص وتمتلك كل حضارة ساعتها الخاصة وايقاعها الزمني.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram