حيدر المحسن
أحدّثكم اليوم عن اللّون الأسوَدِ القديمِ والطيّبِ، عن ظلّه الذي يكبر، عن الرّياح التي تحمله ويعطيها قوّتَهُ لتمطُرَ. كلّ الأسودِ موسيقى، وفي أحيانٍ أخرى هو رائحةٌ أو طعم أو إشارة. الأسودُ هو الكلمة أيضا.
في لا واقعية الأسود تظهر المرأة بعباءتها أكثر عرياً، وعليها أن تؤكّده، ماضيةً نحو عريٍ آخر، وآخر... "يا أم العباية/ حلوة عباتك". لكن الأغنية لا تأتي على ذكر التنّورة قرمزيّة اللّون أو البلوزة الزّرقاء والشّريطة الحمراء التي تربط الشَّعر. لا تتحدّث الأغنية إطلاقاً عن الجسد السّنبلي النّحيل والبشَرة شديدة البياض والصّوت المرتعش والملوّن بالمرارة والشّوق. لا تقول الأغنيةُ أيّ شيءٍ عن وميض الشّهوة في العينين، أو التّنفّس الخافت المنتظم للجسد، وهو يمتلئ سعادة.
تغطّتْ ليلى بعباءتها، وغفتْ. كيف تكون أحلامُها، والظّهيرةُ نافرةً في النّافذة؟
رأيتُ في الحلُمِ مرّة أني كنتُ أدورُ في الغابةِ، وشاهدتُ نمرةً سوداءَ، وتجمّدْتُ في مكاني. وكما لو أنّها استشعرتْ نظرتيَ الذّاهلةِ، وبانَ في الحالِ على وجهها ما لستُ أدريهِ، الغضبُ أمِ الفرحةُ؟ أثارتني عيناها. سحرتاني وجعلتاني أرى أوّل مرّةٍ مجدَ الضّوءِ ومجدَ الجمالِ والقوّةِ. عادةً ما تنتهي مثل هذه الأحلام بأن يفزَّ النّائم، ويعودَ إلى النّوم، ويحلمُ ثانيةً، وفي الصّباح ينسى كلّ ما رآه في تلك الدّنيا. لكنّني لم أنسَ عينيّ نِمَرتي السّوداء بالمرّة، وأشعر دائماً بأني ما زلتُ تحت تأثيرِ ذكراها وصورتِها التي لا تبارح ذاكرتي، وحاجتي إليها تزداد كلّ يوم.
قالوا: ودُهْمُ الخيل أقوى وأجود، والبقر السّود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى. الحملُ الأسودُ الرّضيعُ كان زينةَ أربعين فدّانًا وخمسين نعجةً وتسعةَ أكباشٍ وثلاثاً وعشرين حملاً وخمسة كلاب وأتانًا.
كان الحصانُ الأسودُ يخبّ ويتقافزُ. فكّر الرسّامُ، وكانت ذراعُهٌ تؤلمُه. أغمضَ عينيه المتعبتين. بدل الحدوةِ والنّعل الحديدِ، يمكنه رسمَ برتقالة. أربع برتقالاتٍ، والحصانُ يعدو في السّهوبِ، تغدو عشرًا. خمسَ عشرةَ. أربعة وعشرين. مائة... الحصانُ الأسودُ كان يحلّقُ ويجمحُ، وعُرفُهُ يتراقصُ في الريح.
انتباه!
انتباه!
السّماءُ في القريةِ تمطرُ برتقالاً، وكان الرّبيعُ يعودُ إلى السّهوبِ بعجالة وقوّة.
يقول الشّاعر: في باطن كفّي، رأيتُ الأسْوَدَ مرةً، وكان غائماً، يمطرُ...
جميعُ الطّيورِ اختفتْ ألوانُها مذ سمعتْ بوقَ اللّيل الرّهيب، جميعُ الأشجارِ والأزهار، العشبُ والحجارةُ والكلبُ والأتانِ، النّهرُ والصّخورُ والجبالُ والنّوارس، وبات الوجود مرسوما بالحبرِ الصينيّ، لا تشيبُ الأشياء به ولا تذبل، فهي تنامُ به السّاعةَ، وتستيقظ في الغد. بأسوَد اللّيل يموت الوجود، وبه يحيا.
ما بعد ظهيرة هادئة، كلبٌ أسودُ ضخمٌ ـ wolf dog ـ كان يتجوّل مع صاحبه. طفلةٌ تنظر إليه برهبة، بذهول، بفزع. ثم ابتعد الكلبُ، وكان الذئب يتطلع إلى الطّفلة من قفاه.
تبتسم ليلى لي من خلف خمارها الأسوَد، ذي الفيض الأسوَد، المطرّز بالأسوَد. ابتسامة انزلقت من عينيها الخضراوين السوداوين، هابطةً جسدها، وكنتُ أرى الأناقة الساهية وحمرة الخدّين، ملاسةَ الوجنتين، لحامةَ الشّفتين، وكانت ليلى في أوج وحامها ودلالها.
في هذا اليوم الصّيفي، في وقت الظّهيرة، والحرارة تكاد تبلغ الخمسين، ثلاثةُ متسوّلين مرّوا، أعقبتهم ثلاثُ متسوّلاتٍ، وجميعهم كانوا يرتدونَ الأسوَد.
خلعتْ ليلى ثوبها الأسود، مباشرةً، وتمدّدتْ قربي. وكان الجسدُ الفتيّ كأنما يطلبُ تعويضا، وكان باسلاً، رغم أنها كانت منهكةً من البكاء واللّطم والرّقص في المأتم.
من أين يأتي الشّعاعُ في الأسوَد، إلى أين يمضي؟ إن لديه هياجا من عناد كلّ الألوان، في أنه الأجمل والأبهى. اتّساقُ الأسودِ تحرسُه آلهةٌ قديمةٌ. كي تلهبه الشّمس من عليائها، تظهرهُ كما لو أن فيه حريقا باردا. أتون من بهاءات مكفهرّة تختال في الأسود، وتصدح فجرَ كلّ يوم، وفي الغسق.
يستفيقُ الشاعرُ، وفي اللّحظةِ نفسها، يستفيقُ معه أسْوَدَه...