اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الشخصية وحدود المكان.. في رواية المسكونون

الشخصية وحدود المكان.. في رواية المسكونون

نشر في: 11 مارس, 2023: 10:43 م

ناجح المعموري

المكان في رواية "المسكونون" مكان مفترض ووهمي وكان على القاص عبد الرزاق المطلبي ان يرسم حدوده وابعاده، ولا يتركه غائماً، وبحاجة الى تفاصيل ادق تمنحه شخصيته المرتبطة مع الموضوع الروائي المشيد اسطورياً.

لذا ولهذا النقص الحاصل في بنيّة المكان، انعكست الاثار الجانبية له على الشخوص الروائية ولم تتضح معالمها بشكل كاف. وظلت اكثر الشخوص ــ وباستثناء سامرة والغرباوي والرجل الغابي ــ بعيدة تماماً عن ملامحها، وظروفها، حياتها، طبيعة العلاقات المتحكمة بها في الحياة العامة والخاصة. حيث لم يكن وهم الكنز والبحث عنه كاف لتسليط ضوء عليها.

لهذا كانت كل الشخوص في الرواية تدور في فلك البحث عن حلمها الذي لم يقدها الى خلاص مرتقب، أو تحقق حلم مرتجى لأن البحث والسعي الى الكنز هدف بالضرورة يجب أن تتحكم فيه وبالدوافع الذاتية والجمعية عدة أسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية. ولا ادري كيف غابت عن القاص الرؤية الاجتماعية، للأسباب الموجبة لكل ذلك السعي الطويل والدائب؟ كما أن سعي الشخوص كان سعياً منقطعاً في بعض الأحيان لأنه ينتهي بانتهاء الوجود الفني للشخصية، وتأتي اخرى لنأخذ الحلقة المغلقة، وتبدأ مرة أخرى، حتى أسلمت كل الشخوص مسعاها الى سامرة والغرباوي ــــ المأخوذان بالحلم وسط الغابة، التي ظلت في حدود رمزها العام، وأبعادها الضيقة، لأن القاص أغفلها ولم تمتد اليها مخيلته، كي يرسم لنا جوها وحدودها، والحياة السرية فيها. لأن الرجل الغابي والكلب والذئب، لم يكونوا وحدهم سكانها، مضافاً لذلك أن الغابة كحياة مغلقة وسرية، تحتمل الكثير ارتباطاً مع اسطورة الكنز التي شيدت عليها الرواية.

والمكان في الرواية مكان محدود المساحة بالرغم من انه موزع بين قرية أو مدينة، مقبرة... غابة. لكنها جميعاً لم تأخذ من الجو العام للأسطورة شيئاً. وكان القاص عبد الرزاق المطلبي يمر سريعاً على أمكنة مهمة كالمقبرة مثلاً، ولا يوجد صلتها مع الكنز كمحرك للشخوص بشكل معمق. وفقدت تلك الأمكنة بعضاً من قوتها وما بإمكانها أن تثيره وسط جو ملغوم بممكنات الأسرار واحتمالات اكتشافها. من هذا أستطيع القول بأن المكان في الرواية ظل مكاناً مجرداً من الاسطورة والعلاقة بينهما، وما دام العمل الفني قد اعتمد على الأسطورة فالضرورة تقتضي بإلقاء ثوبها على كل الأمكنة ولو بشكل بسيط، وتمنح بعضاً من صفاتها. وهذا لم يتضح إلا على عدد قليل من الشخوص ولو تعاملنا مع الرجل الغابي وفق هذا المنظور لوجدناه منسقاً بالكامل مع مكانه أولاً ومع الأسطورة الكامنة في الرواية، حيث كانت الأسطورة مشكلة لملامحه الخارجية وعلاقته مع مكانه. لذا لم يكن الرجل الغابي غامضاً منع كل غموضه، ولم يكن متوحشاً مع كل ما ظهر عليه من ملامح وتصرفات، لأن تعاملنا معه وفق فهم الموضوعة الأسطورية يجعله قريباً منا، ويعطيه ملامح قريبة، وليست مستغربة، حتى وأن كانت بادية عليه.

تعتبر شخصية الرجل الغابي أقرب الشخوص الى مكانها وأكثرها صلة وارتباطاً معه، واتساقاً مع الحياة هناك. حيث ظهرت عليه سرية الغابة وتكتمها، سعتها، قوتها، وحشتها، ورهبتها. واكتسب من هذه جميعاً صفاته، وتميز بها مثلما انفردت هي بها أيضاً.

أخذ الرجل الغابي من مكانه أهم ما فيه وخصوصاً تغير المعادلة، حيث أصبح المجهول معلوماً، والصدفة حدث ممكن ومرتب، والمفارقة منظمة ومقصودة، واتضح هذا في النتائج النهائية للرواية، تلك النتائج التي بدت في ظاهرها غير واقعية، لكنها وارتباطاً مع مسعى سامرة في بحثها عن خلاصها المتمثل بالرجولة الخلاقة واقعية للغاية.

***

إن المكان أكثر وضوحاً ودقة في الحكايات والخرافات، لأنه يدخل ضمن التشكيل الفني للعمل ويرسم صورة دقيقة، مساهمة في تطوير الحدث نفسياً، ويمنح الشخوص بعضاً من صفاتها، ويلعب دوراً بارزاً فيها. ولم يترك العقل الشعبي مكاناً هامشياً وغير موضح في حكاياته ومأثوراته التي ابدعها.

نلاحظ في الكثير من الحكايات دقة وتركيزاً في تشكيل صورة المكان، لان العقل الشعبي يختزل الكثير من تفاصيله، كي يوفر له معلومات عبر حركة الشخوص ونموها، وتطور الحدث الذي يعتمد كلياً على المكان ويلعب دوراً في التطور والنمو.

مخيلة القاص التي خلقت اجيالاً وحافظت على امتدادها، عبر حركة قريبة لنفس القارئ، تلك المخيلة لم تأخذ مداها، ولم تتوفر فرصتها مع المكان. واعتقد بأن القاص ظل بعيداً عنها نوعاً ما، لأنه لو انتبه جيداً لأهمية استدعاء واستحضار مخيلته كي تأخذ دورها، لكان للمكان دور اخر.

لم تتضح صلة الشخوص بالمكان في الرواية الا في حدود ضيقة، متمثلاً ذلك في السعي نحو الكنز والبحث عنه. لذا فأن وجود الزوجين في الغابة كان وجوداً هادئاً ومطمئناً، وكأنهما يعرفان كل شيء عنه.

لم تكف تلك الاشارات السريعة المعبرة عن الوحشة ومشاعر الخوف كافية للكشف عن العلاقة بين الطرفين. حتى شخصية الرجل الغابي، منحها المكان صفاتها ولا نستطيع تفكيك ملامح وقوة الرجل وسريته عن الغابة، لانهما توحدا معاً وتحققت صلة سامرة مع الرجل الغابي بقفزة سريعة، وسلكت طريقاً نحو مكانه الشجري الذي تم فيه الاتصال والتواصل بينهما، وهذا يعيد لنا امر اغفال القاص للمكان وخصوصاً في مجال اتصال الاثنين. حيث لم تشر الرواية الى المكان الشجري ولا الى الامكنة المؤدية اليه وتلك المجاورة له، وفوجئنا بسامرة وهي تغادر المكان، حاملة معها بعضاً من اثاره. واعتقد بأن المكان الشجري الخاص بالرجل الغابي يتمتع بأهمية كبيرة جداً، اهمية متعادلة مع سرية الغابة، بالرغم من انه يشكل جزء منها وليس كلاً.

وللمكان الشجري دور في اختصار الطريق للوصول الى الكنز مثلما كان متمتعاً بموقع مهم وفعال بالنسبة للطرفين اولهما، الرجل الغابي وسامرة وثانيهما، خالد الغرباوي وكان مهماً بالنسبة الى الطرف الاول لانه شهد ولادة الحلم وتحقق امنية الكنز. ويحمل عدائية بالنسبة للطرف الثاني، حيث تعرضت حياته فيه الى الثلم والخدش لذا اخرج علبة الكبريت واحرقه، محاولاً ازالة اثار الخطيئة المرتكبة، اضافة الى محاولته لتدمير ممكنات اخصاب الرحم ــ عبر احراق مكان الاتصال بينهما.

***

لم يكن لقاء الرجل الغابي بسامرة مصادفة، او مفارقة لان اعتماد الرواية على الاسطورة يجعلها بعيدة عن هذا السياق. لان الاسطورة لا تخضع لهذا الاشتراط الذي يبدو جبرياً في الرواية التي لا تستثمر الاسطورة. ولذا فأن اللقاء بين الاثنين، لقاء في منتهى المعقولية والممكنة الحدوث في الاساطير. واود ان لا يفهم من كلامي هذا بأني احاول الغاء فنية الرواية من خلال حصرها بالأسطورة.

لكني اود ايضاح هذا الجانب المهم والذي اثار الكثير من ردود الفعل بين القراء والقصاصين ومفاده ان لقاء الاثنين ــ الرجل الغابي وسامرة ــ لم يكن خاضعاً لتتالي حدثي ضرورة فنية.

***

الغابة هذا الفضاء الواسع والممتد، كنز للأسرار والخفايا، لا تحتاج نقضاً او شقاً مثلما قال باشلار للوصول اليها او النفاذ لها. انها تحتاج مخيلة خصبة قادرة على فض بكارة الاسرار فيها، وكشف معلومتها وهي لم تكن بالصورة التي يجب ان تكون عليه في الرواية لان مخيلة القارئ قد احتفظت بصورة خاصة للغابة، صورة مكونة عبر المتراكم الهائل والضخم من الصور المرسومة لها في الحكايات والاساطير والخرافات المختزنة منذ الطفولة. لذا ظل هذا الخزين الهائل كامناً في ذاكرتنا ولم تستطع الغابة في الرواية من ايقاظ كل ذلك واحالته الى صحوة جديدة، وانبعاث خلاق، يعين العمل الفني في استكمال حلقات جديدة لم يشر لها القاص. لان القارئ، لا يمكن ان يظل قارئا محايداً، بل صار سلطة ثانية، سلطة مبدعة، تقاسم الفنان سطوته وسلطته على العمل، وبإمكانه ان يضيف لها ويعيد المفقود من حلقاتها، ويوازن بينها متحكماً بسلطته المتأتية له من ثقافته ووعيه وادراكه. واخيراً فأن (المكان لا يعيش على شكل صور وحسب. بل يعيش في داخل جهازنا العصبي كمجموعة من ردود الفعل. فلو عدنا اليه حتى في الظلام فلسوف نعرف طريقنا الى داخله. ومثل هذا المكان يبلغ حداً من القوة تجعل القارئ يتوقف عن القراءة ليستعيد ذكرى مكانه الخاص) (1)

اشارات

الاداب / عدد الرواية العربية الجديدة 1980.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ارجوان

    عندي هذا الكتاب الطبعة الاولى وعليه توقيع الكاتب وقد هداه الكاتب لأحد اصدقاءه او اخوه .

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram